أحدث الأخبار
الخميس 18 نيسان/أبريل 2024
شيرين أبو عاقلة بعد ليلة القبض على الشّهداء!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 12.05.2022

في الوقت الذي كانت فيه إدارات بعض مواقع التواصل الاجتماعي، ليلة الأربعاء، تشنّ هجومها لتبديد شمل أهالي الشهداء الذين اجتمعوا، من فلسطين وخارجها، افتراضيّاً، للحديث عن شهدائهم وعن اختطاف جثامين شهداء آخرين، كان الجيش الصهيوني يقفل اللقاء نهاراً بجريمة قتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة.
مرعب كيف يجتمع الليل والنهار على الفلسطيني، فلا ليل تستطيع فيه الأمهات والآباء والأخوات والإخوة استعادة ذكريات أحبابهم الشهداء، ولا نهار يمكن أن ينعموا به، فيكون نهاراً بلا شهداء آخرين.
ننام، إن نمنا، على حكاية شهيد، ونصحو على حكاية شهيد آخر.
هذا اللقاء الاستثنائي نظمه مشروع «صوان»؛ وهو وليد مبادرتين من قبل «متحف الشهادات»، وهو صفحة لتوثيق قصص الشهداء، أغلقت إثر اللقاء، وصفحة «مش أرقام» وهي صفحة مهتمّة بكتابة قصص الشهداء والأسرى، وتمّ إغلاقها أكثر من مرّة، وهنا لا يستطيع الإنسان إلا أن يتساءل: هل تجرؤ أي وسيلة تواصل اجتماعي أن تغلق صفحة تناقش موضوعاً يتعلق بالصهاينة؟
منذ بداية اللقاء الافتراضي، بدأت حملة التشويش ووقف البثّ، وحجب الصفحات، ولم يقف الأمر عند ذلك، حيث استطاع بعض الصهاينة اختراق البثّ ونشر تسجيل إباحي في غاية الدّناءة، وإذا كان من كلام يمكن أن يقال هنا، فهو كيف استطاع المشاركون، بمختلف أعمارهم، أن يتجاوزوا هذه البشاعة بشجاعةٍ، وفيهم صغيرات وصغار، ويواصلوا المشاركة، هم الذين على يقين من أن أكبر إباحية موجودة في عالمنا هي إباحية وجود هذا الكيان العنصري القاتل، لكنها لم تكن مؤهلة، على بشاعتها، لدفعهم نحو ترك أرضهم.
تحدّثت الأم التي اختطف الصهاينة جثمان صغيرها ابن الخامسة عشرة من عمره، صاحب أصغر جثمان مختطف، وقالت: إنه الابن الوحيد بين أربع بنات، كنت أحلم أن يُكمِل تعليمه وأزوِّجه، الآن لدي حلم واحد لا غير: أن أدفنه، أدفنه فقط. وتضيف: بتّ اليوم أرتعب كلما سمعت كلمة ثلاجة، حيث يحتجزون جسده.
جثامين الشهداء المُختَطَفة التي تدفن أحياناً في مقابر الأرقام، حيث لا أسماء، بل أرقام للقبور، هو ما أطلق حركة «مش أرقام»، يُحتَجز بعضها الآخر في ثلاجات لسنوات طويلة، في عمليات صهيونية يمكن أن ندعوها عمليات القبض على الشهداء، وعمليات عقاب جماعي، غاية في القبح، لأهاليهم.
حين يتحدث أحد الآباء عن جثمان ابنه الشاب الذي سلّموه إياه بعد معركة طويلة استمرت تسعة أشهر، قال: لم نعرفه، فقد أكل جليد الدرجة الأربعين تحت الصفر ملامحه، عرفناه من بعض العلامات الفارقة.
لكن الأمهات والآباء والزوجات والأخوات والإخوة والأبناء الذين لا حلم لهم غير حلم دفن أحبابهم الشهداء، يقولون في اللقاء نفسه بوضوح لا لبْس فيه: لن نقبل بأن تتمّ مقايضة أي جندي صهيوني في قبضة المقاومة بجثامين أبنائنا، بل الأولوية للأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الصهيونية. ندافع عن أحيائنا ونترحم ونستعيد أبناءنا بأن نتذكرهم، ونواصل العمل من أجل إطلاق سراح جثامينهم.
لكن الشهداء لا يبتعدون كثيراً بعد استشهادهم؛ تتحدث الابنتان الصغيرتان عن أبيهما وأخيهما الشهيدين: إنهما لا يفارقاننا، في كل مناسبة فرح يحضران في أحلامنا، مهنئَين أو معزيَين. أخي، تقول إحداهّن، جاء لزوجته في الحلم وأخبرها أن تخبرني أن أنام هادئة في ليلة ظهور نتائج الثانوية العامة، لم يخبرها فقط أنني سأنجح، بل أخبرها بالمعدل العام الذي سأحصل عليه.
ننام على حكايات كنا ضيوف قدسيّتها: الفنان محمد البكري، والشاعر خالد جمعة، وكاتب هذه السطور، ونصحو على شهيدة باتت واحدة من أفراد أسرنا منذ أن أطلّت على شاشة قناة الجزيرة. إنها ابنتنا وأختنا وشقيقة قلوبنا، فتتحوّل بيوتنا بفقداننا لها إلى بيوت عزاء، صمت، وحزن عميق، وغصة في القلب والروح.
كنا نريدك بيننا إلى ذلك اليوم الذي نتحرر فيه يا شيرين؛ اليوم اختلفنا بشأنه منذ ليلين، هل سنبكي في يوم حريتنا أم سنضحك؟
سنبكي ونضحك يا شيرين، فمئة سنة مرّت ونحن نقاتل وحوش الليل والنهار، لم نتوقف عن البكاء والضحك، كل يوم. نعرف أنك ستكونين أيقونة أخرى في حياتنا، من الصعب قتلها، وأنك ستقارعينهم في غيابك بطريقة لا تقلّ عن مقارعتك لهم في حياتك، ولكننا سنحنُّ إلى وجهك دائماً، ونريدك بيننا.
وبعد:
تذهب الكتابة بقلبها المرتجف خائفة وهي تعيش كل أولئك البشر الذين كلما قبضوا بكامل أيديهم على قطعة من حريتهم اكتشفوا أنهم لا يملكون المكان الآمن الذي يخبئونها فيه، غير أجسادهم، ويواصلون طريقهم، إلى أن تفيض حريتهم عن مدى أجسادهم فيتحوّلون إلى شهداء أحياء.
وبعـــد أيضاً:
تقول «آمنة» في رواية أعراسها: تسألينني لماذا البكاء؟ ومتى سأبكي إذاً؟ لماذا لا نبكي كلنا؟ كلنا يا ابنتي، مرّة واحدة. هل يجب علينا أن نُـزغرد طوال الوقت، لماذا؟ لأن أولادنا شهداء. ولكنهم أولادنا. كلّ يوم، كلّ ساعة، كلّ لحظة أنتظر أن يدقَّ أحدهم الباب ويأتيني بالخبر الذي لا أريد سماعه. كلُّ هذا الخوف عليهم، كل هذا الخوف، وفي النهاية يجب أن أزغرد.
أتعرفين لماذا تبكي الأمهات خوفاً على أبنائهن طَوال الوقت؟ لأن عليهن أن يزغردنَ مرةً واحدة. واحدة فقط، كي لا يخجلنَ من هذه الزغرودة التي يطالبهنَّ العالم بها. تبكي الواحدة منّا طوال الوقت لأنها تعرف أن هنالك لحظة آتية، ستكون فيها مضطرة لأن تخون أحزانها، وتزغرد. ثم هل تعرفين من هو الذي يجبرنا على أن نـزغرد فعلاً؟ لا ليس أهلنا وأقاربنا وجيراننا، لا ليسوا هُم، الذي يجبرنا على أن نـزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحسَّ لحظة أنه هزمنا، وإنْ عشنا، سأذكِّرُكِ أننا سنبكي كثيراً بعد أن نتحرّر. سنبكي كل أولئك الذين كنا مضطرّين أن نـزغرد في جنازاتهم، سنبكي كما نشاء، ونفرح كما نشاء، وليس حسب المواعيد التي يحدّدها هذا الذي يُطلق النار عليهم وعلينا الآن. فنحن لسنا أبطالاً، لا، لقد فكَّرتُ طويلاً في هذا، وقلت لنفسي: نحن لسنا أبطالاً، ولكننا مضطرّون أن نكون كذلك.

1