أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
عاملات المنازل في تونس: ضحايا غياب الهيكلة والتقنين!!
بقلم :  منية الكوّاش* ... 22.07.2020

40 ألف امرأة يشتغلن عاملات منازل في تونس ، من بينهن قاصرات ومسنّات وجامعيّات ومهاجرات ، إذ يعدّ قطاع عملة المنازل ثاني أكبر تجمّع للعمالة النسائية وهو مورد رزق للنساء بنسبة 77 بالمئة ، لكنه بقي مهمّشا ، يفتقر إلى أدنى شروط العمل اللاّئق. هذا إضافة الى أنه محلّ وصم وتمييز إجتماعي ونظرة دونية و لم يحظ بتدخل الدولة وسكت عنه المشرّع وتناسته الحكومات التونسية المتعاقبة.
لم تعبأ السلطات للتطوّرات التي لحقت بهذا القطاع فلم تخصّص له منظومة قانونية تتماشى مع حجمه ولم تصنّفه كقطاع مهني إستوفى شروط العلاقة الشغلية ولم تدرجه ضمن المهن المساهمة في الحياة الاقتصادية ولم تخضعه لمجالس العرف و هي محاكم تعالج قضايا الشّغل، كما جعلت من خضوعه لأنظمة الضمان الاجتماعي خضوعا إختياريا. وأمام هذا الفراغ التشريعي و الصمت الحكومي قرّرت الجمعيات المدنيّة النسائية كالجمعيّة التونسية للنساء الديمقراطيات والجمعية التونسية من أجل البحث والتنمية، والمنظّمة العمّالية : الإتحاد العامّ التونسي للشغل التحرّك من أجل حثّ الحكومات على المصادقة على المعايير الدولية من أجل العمل اللائق ولملء الفراغ التشريعي منبع تهميش هذا القطاع
وفي مبادرة طريفة من نوعها شرّكت هذه المنظمات في تحرّكاتها عاملات المنازل ليكنّ شاهدات عيان وليدافعن عن حقوقهنّ فوضعت على ذمّتهنّ دورات تكوينية، تقنية ونفسيّة وقانونية تقيهنّ مخاطر مهنتهنّ وإستغلال مؤجّرهنّ.
جهدهنّ هو رأسمالهنّ
وقد جاء في دراسة أعدّها الدكتور زهير بن جنّات بطلب من الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، صدرت بتاريخ جوان 2020 : أنّ 55 بالمائة من العاملات المستجوبات صرّحن بأنّهن لم يخترن هذه المهنة ولم يمارسنها بحثا عن إستقلاليّة ماليّة بل من أجل تعزيز دخل أزواجهن ومساعدتهم على تلبية حاجيات أطفالهن ف44 بالمائة منهنّ أكّدن أنّ أزواجهن عاطلون عن العمل أو يتعاطون العمل اليومي، فهنّ لم يتوجّهن إلى هذه المهنة عن طواعية بل لأنّها المهنة الوحيدة المتاحة لهنّ خاصّة وأنّ جلّهنّ نازحات من المناطق الداخلية والريفية إلى العاصمة التونسيّة ، لم يسعفهنّ الحظّ فلم يزاولن تعليما مدرسيّا ولم يتحصّلن على شهادات تعليمية ولم يسندن بتكوين مهني يكفل لهنّ حرفة تقيهنّ من الخصاصة. وهنّ أيضا قاصرات أرغمن على هذا العمل الشاق ولم يستو بعد عودهنّ ، فقد عجز آباؤهنّ عن الإنفاق عليهنّ فأرسلوهنّ للعمل بمنازل العاصمة لينفقن عليهم عوضا أن ينفقوا عليهنّ. من بينهنّ كذلك نساء مسنّات قضين أجمل سنين حياتهنّ في هذه العمل المتعب إلى أن إحدودب ظهرهنّ. إنظمّ إلى هذه الشريحة كذلك مهاجرات قادمات من صحراء إفريقا ، غرّر بهنّ السماسرة ووعدوهنّ بعمل مربح في تونس العاصمة مستغلّين ضيقهنّ وغربتهنّ ليشغّلوهنّ لحسابهم ويمنحوهنّ أجورا متدنيّة ، دون أن ننسى تلك الجامعية التي أعياها طول الإنتظار وهي تبحث عن عمل قارّ ، فنفذ صبرها وتبخّر طموحها وأرغمت على العمل معينة منزلية. كما إلتحق أيضا بهذه الفئة المهنيّة أجيرات حرمن من عملهنّ بعد أن أوقفت معامل الخياطة والجلد والمحلات التجارية والصناعات التحويلية أبوابها فالبلاد التونسيّة تعيش أسوء مراحلها الاقتصادية ونسبة البطالة شارفت 20 بالمائة أمّا القدرة الشرائية وتدهورت القدرة الشرائية بنسق متسارع .
هذا وقد تزايد الإقبال على هذه المهنة خلال السنوات الأخيرة من قبل نساء يترواح سنّهن من 18 سنة إلى 70 سنة ، أغلبهن متزوّجات ، يقطنّ بالأحياء الشعبية المتاخمة للعاصمة التونسيّة ، يغادرن منازلهن كل صباح للعمل بمنازل الأحياء الراقية ويعدن إليها آخر النهار. ولم تعد إذن مهنة معينة منزلية مقتصرة على تلك الطفلة الصغيرة ذات العشر سنوات التي يرسلها والدها لتقطن وتعمل بمنازل العاصمة فآثرت هاته النسوة العمل بعدد من المنازل يضاهي عدد أيام الأسبوع وبمعدّل منزل واحد كل يوم وبصفة دورية ، متنقّلة من منزل إلى آخر ليقع تكليفها كل يوم بقائمة طويلة وعريضة من الأشغال تتكرّر بتكرار الأيّام فقد إختارت عاملة المنازل أن تشتغل كامل الأسبوع، متحيّلة على وضعها ، مضحّية بصحّتها مستثمرة في جهدها الجسدي الذي يعدّ رأسمالها الوحيد والأوحد. غير عابئة بما يكلّفها خيارها من جهد وعناء وإنعكاسات سلبيّة على صحّتها.
جائحة كوفيد 19 جعلت من بعضهنّ متسوّلات
ثم جاءت جائحة كوفيد 19 لتزيد الطين بلّة وتعمّق من معاناة هذه العاملة المنزلية وتثقل كاهلها ، ملقية بتداعياتها على هذا القطاع الهش فعرّت عيوبه وأبرزت نقائصه. إذ وجدت عاملة المنازل نفسها عاجزة على توفير أجرها اليومي بعد أن منعتها إجراءات الحجر الصحي، من التنقّل للعمل بالمنازل فعاشت الخصاصة وعجزت عن خلاص معلوم كراء البيت وإضطرّت لقبول المساعدات من الأصدقاء والأقارب ومن الجمعيات الخيريّة كما أرغم بعضهن على التسوّل فلا مدخّرات لديهنّ يستأنسن بها ولا رعاية إجتماعية تحميهنّ فتخفّف من مصابهنّ .
وأمام حجم الضرر الذي لحق بهذه الشريحة الاجتماعية وما حلّ بها من ضيق مالي نتيجة هذه الجائحة قرّرت وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن أن تدعم المتضرّرات فوضعت على ذمّتهن قروضا ماليّة بقيمة 1000 دينار لكلّ عاملة بشروط ميسّرة على أن يتمّ سدادها على 24 شهرا وبمدّة إمهال بشهرين.. لكن هذا الإجراء لا يبدو واقعيا بالمرّة إذ كيف بإمكان هذه العاملة التي لم تجد مبلغا ماليا ضئيلا تسدّ به رمقها أن تقدر على تسديد أقساط مبلغ مالي هامّ وهي التي دأبت على تقاضي أجرا يوميا زهيدا ومتدنيا ، لا يكتمل اليوم إلا وتكون قد أتت عليه كلّه. فتمكينها من قرض ومطالبتها بتسديده على أقساط يعدّ حلّا تعجيزيا بل قد يعود بالوبال على هذه الشريحة ويدخلها في متاهات الدّيون المتخلّدة وما يترتّب عنها من خطايا وإجراءات قانونية قاسية.
قطاع مسكوت عنه
إن عدم تقنين هذه المهنة وعدم ضمّها لسلسلة المهن المتخصّصة في إسداء وتقديم الخدمات ، ليسري عليها ما يسري على بقية المهن الشبيهة من عقد شغل كتابي وإتفاقيات شغلية وعدم إخضاعها لمجالس العرف أضرّ بهذه الشريحة الاجتماعية الكادحة ومنعها من تثبيت نفسها في سوق الشغل ومن صنع هوية وإستقرار إقتصادي يساعدها على مجابهة الصعوبات والطوارئ . فمعضلة هذا القطاع تكمن بالأساس في سكوت المشرّع وعدم تحيين القانون بالرغم ممّا شهده هذا القطاع من تطوّرات ومن تزايد عددي فقد بقي التعاقد شفويا إذ 47 من مائة عاملة منزلية مستجوبة صرّحن للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بأنهن يعملن بمقتضى تعاقد شفوي فتقوم العلاقة الشغليّة بينهن وبين مؤجرهنّ على العلاقات الشخصية وعلى العاطفة لا على القانون. فلم تنصّ مجلة الشغل على أن يكون هذا العقد كتابيا وممضى من الطرفين في حين تسدي عاملات المنازل كغيرهم من الأجراء بخدمات عينية ، مقابل أجر ، ويخضعن لرقابة المؤجّر وهي الشروط اللازمة والمستوفية لضبط وتحديد العلاقة الشغلية القانونية بين أجير ومؤجّر. فقد فتح الفراغ التشريعي الباب على مصراعيه لأرباب المنازل لإستغلال هذه الفئة المهمّشة والتحكّم فيها وسمح لهم بأن يتعاملون معهنّ وفق أهوائهم ومزاجهم ويمنحوهنّ أجورا وفق تقديراتهم الخاصّة فتقوم العلاقة بينهم على تمثل عمودي من أمر ونهي وتمييز وتعدّي على الذات البشريّة.
كما لم يجعل المشرّع أيضا من خضوع عاملات المنازل إلى نظام الضمان الاجتماعي خضوعا إجباريا بل إختياريا فكان متساهلا في تطبيقه فلم يلتزم به أرباب المنازل ولم يمكّنوا العاملات من تغطية إجتماعية وحماية صحية وسلامة مهنيّة فقد بيّنت إحصائيات الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أن 61 بالمائة من بين المستجوبات لا يتمتّعن بنظام التأمين وليس لهنّ بطاقة علاج.
غياب الرقابة : إنتهاك للطفولة
يستبيح قطاع عاملات المنازل أيضا تشغيل الفتيات صغيرات السنّ بالرغم من أن مجلّة الشغل حدّدت السنّ الأدنى لتشغيل الأطفال بألا يقلّ عن 16 سنة لكنّ الإحصائيات أبرزت أن 30 بالمئة ممن يعملن معينات منزليات هن دون 16 عاما وتعود هذه الإنتهاكات إلى غياب الرقابة التي سمحت لبعض السماسرة وبعض الأولياء من متساكني المناطق الداخلية للبلاد التونسية التي تعاني الفقر والبطالة من التمادي في إرسال بناتهم القاصرات للعمل بمنازل الأحياء الراقية بالعاصمة التونسية كحلّ سهل يخلّصهم من أعباء ومؤونة بناتهم ويوفّر لهم بعض الأموال وقد جدّت أخيرا حادثة أليمة تحدّثت عنها وسائل الإعلام بإطناب إذ ضرب أحد الآباء إبنته ذات 12 سنة ضربا مبرّحا، فخلّف لها كسورا على مستوى اليد والظهر والحوض لأنّها رفضت الإذعان لطلبه والذهاب للعمل بإحدى المنازل بالعاصمة التونسية.
وفي مقابل هذا التراخي الحكومي والجمود التشريعي تتحرّك جمعيات المجتمع المدني والمنظّمة الشغيلة لتندّد بهذا الصّمت ولتدفع بالحكومات التونسية المتعاقبة للتعجيل بتطوير التشريعات الخاصة بهذا القطاع المهني وللإسراع بالمصادقة على الإتفاقيتين الدوليتين عدد 189 المتعلقة بالعمل اللاّئق وعدد 190 من أجل القضاء على العنف والتحرش في عالم العمل إذ لم تصادق الدولة التونسية مثلها مثل بقية الدول العربية على هاتين الإتفاقيتين اللتين تلزم الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة بإتّخاذ تدابير تضمن حقّ العمل اللائق والتصدّي للعمل الإجباري وحقّ التمثيل النقابي وهاتين الإتفاقيتين من شأنهما أن تحمي هذه الشريحة الاجتماعية المستضعفة حتى لا تكون لقمة سائغة ومرتعا للإستغلال والإستعباد البشري.
كما تبنّت المنظّمة العمالية والجمعيات النسوية قضايا عاملات المنازل مندّدين بما لحقها من إهمال وتفقير فقد دأب الإتحاد العام التونسي للشغل على تحسيس عاملات المنازل بأهمية التمثيل النقابي وشرع في إعداد ميثاق نموذجي لوقاية عاملات المنازل من العنف ومن التحرش في مقر العمل ولحمايتهنّ من التجاوزات والإنتهاكات ومن العنف اللفظي والجسدي ومن الإتّهامات الملفّقة لهنّ ومن النظرة الدونية المسلّطة عليهن من أرباب المنازل دافعا بالحكومات إلى فرض العمل اللائق.
تعاضديات لتكوين عاملات المنازل
في حين أعدّت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات دراسة لتشخيص وضع عاملات المنازل وإبراز الإنتهاكات والتركيز على رهانات العمل اللائق فتمّ تشريكهن لتقييم تجاربهن وكسّرن حاجز الصمت وتحدثن عن معاناتهن ورغبتهنّ في القطع مع الأفكار المسبقة والصور النمطية وتوقهنّ لتغيير وضعهن، آملات أن تتغيّر نظرة المجتمع لهن.
كما أحدثت جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية تعاضدية لتحسيس وتكوين عاملة المنازل فكانت هذه التعاضدية فرصة للتعلّم ولإنتاج المعلومة لتعي العاملة بواجباتها وحقوقها ثمّ تنقلها هي بدورها إلى زميلاتها. فنظّمت هذه الجمعية دورات تكوينية : نفسية وتقنية وقانونية لتمكّن عاملة المنازل من بعض التقنيات العملية والمعرفيّة حتى تحمي نفسها من مخاطر هذه المهنة وتخفّف من تأثيرها على صحّتها فقد أقرّت 57 بالمائة من النساء المستجوبات من طرف الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أنّهنّ يعانين من أمراض المفاصل ومن الأمراض الجلديّة ومن أمراض الحساسيّة وهي أمراض ناتجة عن أضرار ومخاطر مهنيّة وقد تتسبّب في عجزهن فتهدّد إستمرارهن في عملهنّ.

*كاتبة تونسية.. المصدر راي اليوم
1