أحدث الأخبار
الثلاثاء 23 نيسان/أبريل 2024
أبو كلثوم الأدرعي…!!
بقلم :  سهيل كيوان ... 16.07.2020

أثارت تسمية شارع في مدينة حيفا على اسم أم كلثوم جدلاً، بين متحمّسٍ ومتهكّم ومستغلٍ للفكرة سياسيًا.
الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي آفيخاي أدرعي، تحدث عن السّلام والمحبة والوئام والتعايش في حيفا، المدينة المختلطة بروح شمس الأصيل «وصفونا في المحبّة هو هو صفاك/ ملناش لا إحنا ولا انت في الحلاوة مثيل».
ومن جانب آخر تهكّم يائير نتنياهو، نجل رئيس الحكومة، على قرار لجنة التسميات في بلدية حيفا، ووصف الأمر بأنه جنون، وأضاف بأنكم من الآن ممكن أن تسمّوا شارع الاستقلال باسم «بلادي بلادي».
في حيفا أكثر من ثلاثين ألف مواطن عربي، يشكلون حوالي 10٪ من سكان المدينة حاليًا، معظمهم قدموا من القرى العربية، بعدما لم يبق في حيفا بعد النكبة سوى ألفين وخمسمئة مواطن من أصل سبعين ألف عربي، بسبب تهجيرهم بقوة السلاح.
للعرب ممثلون منتخبون في البلدية انضموا للائتلاف البلدي، ومن بعض بنود الاتفاقية الائتلافية هو العمل على مكافحة العنصرية.
مما لا شك فيه أن تسمية أم كلثوم على شارع في حيفا هي خطوة إيجابية، وهذا شرف كبير لحيفا، إلا أن تسمية شارع أو حارة ولا حتى مطار لا تكفي للتغطية على جريمة مستمرة منذ سبعة عقود في المحو والإلغاء والتغيير في الأسماء ومعالم المدينة وأحيائها ومؤسساتها وعمارتها العربية.
أم كلثوم لم تكن فنانة فقط، فقد كان لها موقف سياسي كذلك، وقد أنشدت «والله زمان يا سلاحي» إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي اشتركت فيه إسرائيل وفرنسا وبريطانيا، بعد إعلان تأميم قناة السويس، وتحوّل إلى نشيد مصر الوطني، حتى استبدله الراحل أنور السادات بنشيد «بلادي بلادي».
لأم كلثوم تراث في الأغنية القومية والوطنية، إلى جانب أغانيها للثورة المصرية، غنّت للثورة الفلسطينية «أصبح عندي الآن بندقية» من كلمات نزار قباني، وألحان محمد عبد الوهاب.
أم كلثوم زارت حيفا ويافا والقدس قبل النكبة بعشرين عامًا، ويقال إن لقب كوكب الشرق أطلقته عليها سيدة من طيرة حيفا تدعى أم فؤاد، أثناء حفل لها في حيفا.
إذاعة إسرائيل بالعربية خصّصت منذ عقود ساعة يوميًا لأم كلثوم لجذب المستمعين إليها، ولكن هذا لم يغيّر واقع العنصرية، بل حاول أن يلمّعها وأن يموّه الحقائق على أرض الواقع، وأن يلحق بأم كلثوم حديث «العم حمدان» الموجه إلى الشعب المصري ضد جمال عبد الناصر، وحديث «ابن الرافدين» الموجّه للشعب العراقي ضد ما كان يسميه حكم التكارتة – نسبة إلى تكريت.
الفنان العظيم يرفع قيمة فنِّه، فيرتقي الفن به، هذا ما فعلته أم كلثوم، فقد ارتقت بالموسيقى العربية إلى مستويات غير مسبوقة، وتعتبر اليوم الممثل الشرعي الأول للموسيقى العربية التي نستطيع أن نفاخر بها الأمم.
يتهافت السياسيون على الفنان الكبير لاسترضائه وإظهار حبهم وإعجابهم بفنه، فالسياسي يحتاج إلى الفنان الكبير، وقد كرّم أم كلثوم عددٌ من القادة العرب، وعدد كبير من المؤسسات العربية والأجنبية، ومنها المتحف الوطني الأمريكي لفنون المرأة وعرض مسرحية في لندن تحكي سيرتها.
أم كلثوم غنّت لشعراء عرب من غير المصريين، وكانت أحد رموز حلم الوحدة العربية، وغنّت من التراث الشعري الديني العربي القديم، ومن التراث العالمي، رباعيات الخيام مترجمة من الفارسية.
قدّمت أم كلثوم خدمةً كبيرة إلى اللغة العربية وأبنائها، فمئات أغانيها الفصيحة طوّعت القواعد العربية الصعبة على ألسنة متعلّمين وأميين وأشباه أميين، إضافة إلى المعاني الراقية والمستويات الفنية في الشعر الذي غنّته، سواء في المحكية المصرية أو العربية الفصحى، فهي تستحق أن تكون عضوًا فخريًا، في كل مجامع اللغة العربية.
عندما ألتقي طلاباً في المدارس العربية، أنصحهم بقراءة القرآن الكريم والكتب القديمة المُشكّلة، والاستماع إلى القصائد الفصيحة التي تغنيها أم كلثوم، فهذا كي يسهّل عليهم استعمال اللغة، ويقرّبها منهم.
إضافة إلى اللغة فقد جعلت من الفلسفة موضوعاً ممكن لأي إنسان عادي أن يطرقه من خلال رباعيات الخيام مثلاً» إن تُفصلُ القطرةُ عن بحرها/ ففي مداه منتهى أمرها» إلخ.
وكان للشعر الصوفي مكانه، في أكثر من أغنية، أشهرها «القلب يعشق كل جميل»، يتخيّل الشاعر بيرم التونسي نفسه في الجنة بعد زيارة الكعبة المشرفة: «جينا على روضة/ هلا من الجنة/ فيها الأحبة تنول/ كل اللي تتمنى/ فيها طرب وسرور/ وفيها نور على نور/ وكاس محبة يدور/ واللي شرب غنى/ وملايكة الرحمن كانت لنا ندمان/ بالصفح والغفران/ جاية تبشّرنا».
أم كلثوم مثّلت دور المرأة المناضلة التي شقّت طريقها رغم العوائق الكبيرة في مجتمع محافظ وذكوري جدًا.
في هذه المناسبة، وبما أن الرجل الشرقي معروف أكثر بقمعه لإناث أسرته، فأعتقد أن الشيخ إبراهيم البلتاجي، والد أم كلثوم، يستحق التقدير الكبير، لقد أدرك قبل حوالي مئة عام أهمية دعمه لها كي يوصلها، علمًا أن خطوة أبي أم كلثوم لم تكن سهلة، وهي خطوة يتردد عن القيام بها كثيرون، حتى في أيامنا هذه. أما خطوة بلدية حيفا فيجب أن توضع في إطارها الصحيح، من دون مبالغة في خطورتها كما كتب يائير نتنياهو، كأنها مقدمة لتغيير جوهري في سياسة بلدية حيفا، وبدون تبخيس لها كما فعل بعض العرب الذين قالوا لو أن أم كلثوم حيّة لكانت انتحرت، وفي الوقت ذاته، رفض استخدامها كورقة توت لتغطية جرائم الاحتلال كما يحاول أبو كلثوم الأدرعي أن يفعل.

1