أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
قبل أن أموت…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 22.10.2020

رُفع الإغلاق بعد أسابيع من تحديد الحركة بسبب الكورونا، فأسرعت إلى البحر، وبالذات إلى شاطئ البصّة القريب من رأس الناقورة، شمال فلسطين.
البصّة شقيقة للزّيب القريبة، وكلتاهما مُهجّرتان.
في الخريف أحبُّ هذا الشاطئ، فالمياه تصبح شديدة الصفاء وفيروزية اللون، والنسمة تحمل برودة خفيفة، على الرمال مظلات من القصل، وروّاد المكان قلائل، فيه حمّامات ومقصف وخدمة إنقاذ.
عندما وصلت، انتبهت إلى لوحٍ أخضر كبير مثل الألواح في صفوف المدارس، معلّقٍ على الجدار بحذاء بوابة الدخول، مكتوب في أعلاه بخط عريض بالعبرية عبارة «قبل أن أموت..»؟
ظننت أنني لم أحسن قراءة الجملة، فقرأتها مرة أخرى وصوّرتها بهاتفي.
إنها صيغة سؤال، تحت العنوان عشرات الأسطر التي تبدأ بالجواب لمن يرغب في تكملته:
قبل موتي أريد أن…!
استغربت، فما علاقة سؤال كهذا على مدخل شاطئ استجمام؟ في مثل هذه الأماكن تكون كلمات أو صور مثيرة للتفاؤل والإقبال على الحياة.
كان هناك الكثير من التعليقات:
قبل أن أموت أريد أن أكون مع فلانة.
-أريد أن أعيش-أريد أن أسافر إلى كل العالم.
-أريد أن أ…أختك-أن أموت مليونيراً-أن أتقن العزف على الجيتار- أن أعيش إلى 120 .
-أريد هدوءاً-أن أفوز في ويمبلدون-أن أبتسم..
-أن تفهموا بأن كل شيء باطل.
بعض التعقيبات فيها مرح وجنس، السؤال يبدو تشاؤمياً، ولكنه في الواقع تفاؤلي، ويحثّ الناس على اليقظة من الروتين والغفلة، والسّعي إلى تحقيق أحلامهم قبل الموت المحتوم.
استلقيت على الرمال تحت مظلة القصل، ولا صوت سوى ما يبثُّه الموج الناعس وحفيف أوراق القصل الجافة.
كان عدد من الغربان يتنقل بين الرمال الناعمة وقمة المظلة، تنعق حيناً ثم تهدأ.
ذكّرتني الغربان بمقطع من قصيدة النهر المتجمد لميخائيل نعيمة:
«والحور يندُب فوق رأسِك ناثراً أغصانَه
لا يسرحُ الحسّونُ فيه مردّداً ألحانَه
تأتيه أسرابٌ من الغربان تنعق في الفضا..
فكأنها ترثي شباباً من حياتك قد مضى».
يقفز غراب فضولي ويقترب منّي، على بعد خطوة واحدة.
بحذر أتناول الهاتف كي أصوّره، فيقفز محلّقاً مبتعداً كأنه يقول: العب غيرها..
أغمضت عينيّ، وكأنما طفَوْتُ في الهدوء، فنعق الغراب كأنه يلحُّ في السؤال: ما الذي تريده قبل موتك؟
-حِلّ عني!
-ألم تكن في لحظة ما قريباً من الموت؟
في حياة كل واحد منا لحظات كاد يلقى فيها حتفه، ولكنه ينساها كأنها لم تحدث، فنهاية السّلامة تجبُّ ما قبلها.
من منا لم يكن على مسافة ثوانٍ من حادث طرق قاتل، أو حادثة عمل، أو حادثة شرايين في داخل جسده؟
أغضمت عينيّ، وتذكرت نفسي في مصنع للكيماويات في خليج حيفا، كان هذا في اليوم الثاني لبدء العمل، على ارتفاع بضعة أمتار بين أنابيب البخار وماء التبريد والهواء المضغوط، أحمل مفتاح مواسير، أحاول فتح سدادة حديدية في طرف أنبوب بقطر خمسة إنشات، السّدادة كانت موجّهة إلى الأعلى، انحنيت عليها، وصرت أشدّ بكل ما أوتيت من قوة، ولكنها بالكاد تتحرّك وببطء شديد، ظننت أنّ هذا بسبب الصدأ، كنت عنيداً، أشدُّ بأقصى قوّتي وعزيمتي، خيوط العرق تتساقط من ذقني على السّدادة.
كان مدير العمل الأشيب النحيل، ذو النظارات الطبية، تحتي على الأرض، يروح ويغدو كضابط غاضب: ما الذي يجري عندك؟ لماذا لم تفتح الغطاء حتى الآن؟
استمر هذا دقائق أخرى، سبحتُ في عرقي، حاولت وحاولت حتى وصلت إلى حافة اليأس، لكنني كنت مشحوناً بالتحدي، فأستعيد المحاولة.
-ألم تفتحه بعد!
توتّرت أعصابي، وصرت أداور تارة من اليمين وتارة من اليسار، أنحني أكثر أو أقل، أشد بكلتا يديّ وحتى بصدري، التحدي بيني وبين أسنانها الصدئة التي ترفض الخضوع، سأفتحها يعني سأفتحها، أعتقد أنها تحرّكت، نعم ها هي تخضع أخيراً، لقد بدأتْ بالتراجع، سوف تستسلم، ها هو سنٌ آخر يتراجع، ظهر لمعانه، إنه يقاوم بشراسة ولكنه يتراجع، أيتها السّدادة العنيدة، إرادتي أقوى من الفولاذ.
فجأة حدث هذا، كان هذا انفجاراً هائلاً، شيء ما مسّ شعر مقدمة رأسي، وانطلقت السّدادة التي تزن مئات الغرامات مثل قذيفة في الفضاء تابعتها ببصري عشرات الأمتار وهي ترتفع باتجاه السّحاب، ثم عادت لتهوي يرافقها صوت الهواء المضغوط بقوة، كانت دفقة من الصدأ وبرادة الحديد انغرزت في جبهتي، لم أنتبه أن وجهي اصطبغ بالأحمر.
كان الأنبوب ممتلئاً بهواء ساخن مضغوط بقوة، لا أعرف بالضبط مصدره، فهو واحد في غابة من الأنابيب.
لقد كان بيني وبين تحطم جمجمتي مسافة ملمترات.
كنت قُتلت وأنا في الواحدة والعشرين، وصرت نسياً منسياً، كان والداي سيختاران صورة لي ويؤطّرانها ويعلقانها على جدار غرفة الاستقبال.
كان خيط حياتي قد انقطع هناك، الملمترات التي أخطأت جبهتي كانت ستغّير مصائر عشرات من البشر، زوجتي لن تكون زوجتي، وأبنائي لن يكونوا أبنائي، وأنا لست أنا.
أتذكر ملامح مدير العمل الذي لم يعلق سوى بالقول: خذ أغراضك ولا ترجع إلى العمل.
هل تشاءم مني؟ هل كان عليه أن يعرف بوجود ضغط في الأنبوب وينبهني؟ هل كان يعرف ولكنه لم يتوقع أن يكون الضغط بهذه القوة؟ بل، هل كان يعرف ولكنه كان شريراً جداً؟ لا، لا أظن أن الشرّ ممكن أن يصل بإنسان إلى هذه الصورة..
الغراب يقف فوق المظلة وينعب، ومن خلال الشقوق بين القصل ينظر إليّ كأنما يسألني- حسناً، ما الذي تريده قبل الموت؟
أيها الغراب، أنت متهم بالتشاؤم بلا ذنب، قرأت الكثير عن ذكائك، وأنا معجب بمعشر الغربان، في الحقيقة لا أستطيع حصر أمنياتي الشخصية، فما إن أفكر بواحدة حتى تظهر أخرى أكثر أهمية، بعضها يخصّني بشكل شخصي، بعضها يتعلق بالكتابة والسّفر!
وعلى صعيد الأسرة، بأن أراها هانئة حتى لحظة رحيلي، أما على الصعيد القومي فأن أرى أمّتي متحررة من كل قيد.
ينعب الغراب ويسألني: حسناً، وماذا على الصعيد الإنساني، أليس لديك ما تريده أن يتحقق؟
-هل تعرف أغنية جون لنون؟ «تخيّل».
يرد الغراب- سمعت عنها..
-إذاً، تخيّل الناس يتنقلون من مكان إلى مكان بلا حدود وبلا خوف ولا هموم، ببساطة يشعرون بالسكينة..

1