المعنى "الروسي" في السياسة المصرية!!
بقلم : عبد الحليم قنديل ... 18.11.2013
ربما تلزم التفرقة بين معنى ‘الدولة المصرية’ ومعنى ‘الحكومة المصرية’، على الرغم مما يبدو من تداخل وصلات حوار وجوار .
الحكومة المصرية أمرها مفهوم، والقائم منها الآن رئاسة مؤقتة، ومجلس وزراء مؤقت، وفترة انتقالية تتدافع شهورها، واقتراب لمواعيد الاستفتاء الدستوري وانتخابات البرلمان وانتخابات الرئاسة، بما قد يفرز حكومة جديدة أكثر مصداقية من حكومة الببلاوي العابرة، التي تبدو متعثرة في خطاها، وأقرب إلى ‘مخزن كراكيب’، ويبدو رئيس الوزراء فيها ـ حازم الببلاوي ـ كأنه قادم من ‘غيابة الجب’، وقد يكون فيها بعض الوزراء ذوي الروح الوطنية والثورية حقا، لكن أغلبية الوزراء ليسوا كذلك، وأولهم رئيس الوزراء الممعن في الشيخوخة، الذي لم يضبط متلبسا أبدا بالدعوة إلى الثورة، ولا التورط في حوادثها، تماما كما العدد الأكبر من وزراء البيروقراطية المصرية التقليدية، وهم من ذوي الأيدي المرتعشة والروح الكئيبة، وهم أسرى معادلات الشلل التي سادت حكومات مبارك، وورثتها عنها حكومة الإخوان، ثم يتكرر النهج ذاته بعد الموجة الثورية في 30 يونيو 2013، وما تلاها، فهم يتصرفون ـ أو لا يتصرفون بالأحرى ـ كأنه لا ثورة قامت ولا شعب تبدل، وإن خضعوا أحيانا ـ وعلى كره منهم ـ لضغوط ثورة لم تصل بعد إلى الحكم، وعلى طريقة رفع الحد الأدنى للأجور وتقييد الحد الأقصى، ومع تأجيل التنفيذ، وزيادة الاستثناءات، وبهدف التحايل ووضع العصي في العجلات. أضف إلى ذلك ما تعرفه عن سوء أوضاع الاقتصاد وتردي الخدمات العامة، وهو ما لا تحقق فيه الحكومة نجاحا يذكر إلا على سبيل الاستثناء النادر، الذي يجعل نشاط وزراء كالمهندس إبراهيم محلب ـ وزير الإسكان ـ أشبه بمعجزة تخطف العين، وتكشف موات حكومة تعيش في مقابر الصدقة، وتدير سياسة تسول على طريقة ‘لله يا محسنين’.
وعلى العكس من الحكومة التي تستثير السخط العام مجددا، تبدو ‘الدولة المصرية’ في مدار آخر تماما، بعض مظاهر الدولة موجودة شكلا على خريطة الحكومة، لكن مركز الدولة في مكان آخر، وبالذات في قيادة الجيش، وهو النخاع العظمي للدولة المصرية، ومن حوله جهاز المخابرات وضباط الأمن القومي، ثم يمتد إلى أجهزة سيادية الطابع في وزارت الإنتاج الحربي والخارجية والداخلية، وتبدو الدولة المصرية ـ بالمعنى الذي نقصده ـ عظيمة التجانس الآن، وهو ما يفسر فعاليتها الملموسة، فلها مركز واحد هو قيادة الجيش، وتلتف حول قائد واحد هو الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وربما كان ذلك التجانس هو سر الفعالية، فثمة وحدة في التخطيط، ودأب على التنفيذ في زمن قياسي، وهو ما أدى إلى إنجازات مرئية في فرض الأمن، وفي حرب تحرير سيناء من جماعات الإرهاب، وفي استعادة ‘أرض الضبعة’ المقرر إنشاء أول محطة نووية مصرية عليها، وفي تنصيب هيئة قناة السويس ـ يترأسها قائد البحرية السابق ـ راعيا حصريا لمشروع التطوير الخدمي والصناعي لمنطقة القناة، وفي إحياء وزارة الإنتاج الحربي لمشاريع صناعة أول طائرة حربية وإنتاج أول سيارة مصرية. وبدت هذه المبادرات كأنها إضافة لقوة مركز الدولة، الذي يتمتع أصلا بقوة السلاح، وبقوة اقتصاد جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، الذي يدير مشاريع صناعية وزراعية وإنشائية وخدمية كبيرة، ويمد بفوائضه ظلالا خيرة اجتماعية، من نوع مشروع دفع ديون الغارمات السجينات، والأهم: أن مركز الدولة يدير سياسة إقليمية ودولية جديدة، أعادت إصلاح سياسة التعاطي مع دول منابع النيل، وجعلت خطر ‘السد الأثيوبي’ أزمة لأثيوبيا قبل أن تكون أزمة لمصر، فقد تمكن مركز الدولة المصرية من حرمان ‘السد الأثيوبي’ من مصادر التمويل الكبرى، فامتنعت الصين عن التمويل رعاية لخاطر ووزن مصر المعترضة، وكذلك امتنعت السعودية والإمارات للسبب ذاته، فوق أن مشروع ‘السد الأثيوبي’ يواجه من الأصل مشكلات فنية وإنشائية وجيولوجية عويصة، وكلها تطورات صنعت موقفا تفاوضيا أفضل لمصر، مكنها من وضع هجومي ظاهر، ومكنها من طرح فكرة الشراكة في السد الأثيوبي، ومن أول مراجعة تصميماته إلى عوائده، وإلى اقتراح فترات التخزين المائي من خلف السد، وبما لا ينقص قطرة واحدة من نصيب مصر التاريخي في مياه النيل.
ومن خط مياه النيل إلى خط السياسة العربية، بدأت بلورة موقف مصري في الموضوع السوري متمايز عن مواقف أطراف المعسكر الخليجي الصديق في أغلبه لمصر الراهنة، فمكانة سورية ـ بالنسبة لمصر ـ تعادل مكانة السعودية، وإن اختلفت الدواعي، وحفظ وحدة سورية ووحدة جيشها من أولويات الأمن الوطني المصري.
والسياسة العربية والنيلية لمصر هي جزء لا يتجزأ من أحوالها الداخلية، والقاعدة العامة ـ علميا ـ هي أن السياسة الخارجية انعكاس للسياسة الداخلية، وأن قوة الداخل هي التي تصنع قوة التحرك الخارجي. هكذا هي الحال في كل الدول، وإن كان الحال في مصر الآن يبدو على قدر من المفارقة للقاعدة العامة، فلم تستقر الثورة المصرية المعاصرة بعد على مشهد ختام، ومصر مثقلة بأوجاع تدهور الاقتصاد وسوء الخدمات، وطاقاتها الإنتاجية والصناعية تعرضت لتجريف كافر على مدى العقود الثلاثة الأخيرة بالذات، وأوضاعها الاجتماعية منهكة ممزقة بين أغنى طبقة وأفقر شعب، واستقلالها الوطني تعرض للتدمير والاختراق شبه الكامل، ووقعت مصر تحت احتلال سياسي ترافق مع معاهدة السلام المذل والمعونة الأمريكية، وكلها قيود لاتزال تؤثر بشدة، وتحد من حرية حركة صانع القرار المصرى، خصوصا مع وجود حكومة كراكيب.
وهنا تبدو المفارقة في أظهر تجلياتها، فمركز الدولة ـ خلافا للحكومة ـ يتصرف بروح مصر الفياضة، يتصرف بفوائض القيمة الافتراضية للدور المصري، ويبادر إلى ما كان ينظر له كمخاطرات كبرى قبل 30 يونيو 2013، وربما بمدد ظاهر من الالتفاف الشعبي المؤيد للفريق السيسي، الذي تزيد شعبيته رغم تدهور أداء الحكومة، ورغم الدعاية المضادة من الإخوان وجماعة الأمريكان، ورغم عدوانية البيت الأبيض، وتجميده لقسم كبير من المساعدات العسكرية، فمن قلب المحنة تولد النعمة، من قلب محنة حكم الإخوان ولدت نعمة تمرد الشعب، ومن قلب محنة عدوانية واشنطن، ولدت نعمة التمرد على الأمريكان، وبخطوات محسوبة ومدروسة بعناية، فقد أبدى مركز الدولة المصرية قدرا محسوسا من اللامبالاة بتجميد المساعدات الأمريكية، وفضل الرد الصامت باتخاذ إجراءات لم يعلن عنها رسميا، من نوع إلغاء امتيازات وأفضليات وأولويات عبور السفن الأمريكية لقناة السويس. وبعد الرد الصامت جاء الرد المخطط، وبدأت رحلة الخروج من وصاية واشنطن على القرار المصري، وتمرد صانع القرار على عقدة الخوف من إغضاب أمريكا، وهي العقدة التي حكمت تصرفات السياسة المصرية من مبارك إلى مرسي، وتحرر منها السيسي بقرار الانفتاح الجدي على الشرق الروسي والصيني والهندي، وإلى حيث ذهب رئيس أركان الجيش في مهمة سرية، وفي لحظة النضج جرت إزاحة الستار، وفي أجواء احتفالية باهرة، جرى استقبال الطراد الروسي في ميناء الإسكندرية، وفي ما يشكل أكبر تحد مصري لأمريكا منذ أربعين سنة خلت، سادت فيها فكرة السادات العبيطة بأن 99′ من أوراق اللعبة بيد أمريكا، ثم جعلها مبارك مئة بالمئة، ثم جاء مرسي كمجرد ورقة مضافة لأوراق اللعبة الأمريكية، وتصور أن بمقدور أمريكا أن تعيده إلى الحكم، لكن قفزة السيسي ‘الروسية’ بدت كضربة معلم حقيقية، وحملت إيحاء بوصل ما انقطع مع زمن عبد الناصر، ومع الوعي باختلاف طريقة السيسي وظروفه، فقد جرى كسر احتكار السلاح الأمريكي للجيش المصري، وجرى عقد صفقة سلاح كبرى مع الروس، وفي الطريق: صفقات أخرى مع الصين.
والقاعدة التاريخية في مصر معروفة، فكسر احتكار السلاح يؤدي إلى كسر احتكار السياسة، وهو ما قد يغري بتوقع الخروج التدريجي لمصر من عباءة السياسة الأمريكية، وهذه حقيقة ‘المعنى الروسي’ في السياسة المصرية، فمصر الراهنة لا تخرج من عباءة أمريكا لتدخل في عباءة روسيا، بل تعطي الأولوية للمصلحة المصرية واستعادة الاستقلال الوطني، وقد يكون ما جرى مجرد خطوة أولى عفية، لكن أمريكا ـ في ظننا ـ ربما تعجل بالباقي، وقد تنتقل إلى تصرفات خشنة، وقد تدبر خططا لاغتيال السيسي كما فعلت مع عبد الناصر .
‘ كاتب مصري
المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|