عودة روسيا إلى الشرق الأوسط : بؤس على بؤس!!
بقلم : د. لبيب قمحاوي* ... 08.03.2016
لا أحد يريد عالماً أحادي القطبية تنفرد به دولة واحدة وهذا صحيح ، ولكن الأكثر صحة أن لا أحد يريد أيضاً عالماً ثنائي القطبية تنفرد به القوتان الأعظم وتقوما بإقتسامه كما تشاآن وتريدان طـِبـْقاً لمصالحهما الخاصة . المطلوب حقيقة هو عالم تفتقد فيه أي قوة القدرة على فعل ما تريد وكيفما تريد بحرية ودون أي إعتبار لمصالح الآخرين .
عودة روسيا إلى الشرق الأوسط كانت أملاً للكثيرين من سكان المنطقة في محاولة للحد من تـَفـَرُّدْ أمريكا الصارخ بمقـدرات الشرق الأوسط وإنحيازها المعلـن والشامل والصريح لإسرائيل . ولكن العرب لم يفعلوا سوى التمني دون الإنتباه إلى أن الآمال كلما كبرت دون عَمـَلٍ جاد يرافقها ، غالباً ما تؤدي ، إذا ما فشلت ، إلى صدمات كبيرة .
تعاني العلاقات بين العرب وروسيا من حالة متفاقمة من الإنفصام المبنى على ماض ٍ لم يعد موجوداً وحاضراً لا يريد أن يكون إمتداداً للماضي . الروس الأن ليسوا الإتحاد السوفياتي مع أن بعض العرب يصرون على رؤيتهم كذلك ، فالروس أنفسهم لا يريدون أن يكونوا سوفييت ولا يريدون عودة ذلك العهد .
عودة الإتحاد الروسي الآن إلى المنطقة العربية لم ولن تماثل دخول الإتحاد السوفياتي إليها في خمسينيات القرن الماضي . فالإتحاد السوفياتي دخل في ظل حرب باردة قاسية فـَتـَحَتْ أمام دول المنطقة خياراً بديلاً للخيار الأمريكي المتعجرف وتم ذلك بناءً على قرار عربي مستقـل . أما هذه المرة فقد دخل الإتحاد الروسي إلى المنطقة بتنسيق مع أمريكا وعلى أشلاء الدولة السورية وبطلب لا يعكس إرادة سورية وطنية .
إختلاف إذاً واضح ، فالإتحاد الروسي ليس رديفاً للإتحاد السوفياتي ، والحرب الباردة ليست رديفاً لحقبة التفاهم الروسي – الأمريكي الحالية ، وسوريا المـُدَمـﱠرَةِ ليست مصر الناصرية الصاعدة والأهم من كل هذا وذاك أن الأهداف من وراء هذا التدخل وذاك تختلف إختلافاً جذرياً .
إستبشر الكثيرون من العرب خيراً من التدخل الروسي في سوريا وإعتبروه بداية لتغيير إستراتيجي في علاقات القوة في منطقة الشرق الأوسط ومدخلاً لخلق عالم ثنائي القطبية ، ولكن واقع الأمر يختلف عن ذلك بشكل كبير .
دعونا نضع الأمور في نصابها الصحيح ، فروسيا ليست نـِداً عسكرياً أو إقتصادياً أو تكنولوجياً لأمريكا ، ولكنها مع ذلك تبقى الخيار الوحيد المتوفر لتحويل العالم إلى عالم ثنائي القطبية حتى لو كانت تلك الثنائية مجتزأة . فروسيا الحالية هي القادرة على الحد من الجموح الأمريكي خصوصاً في القضايا أو المناطق التي تشكل جزأ حيوياً من المصالح الوطنية الروسية . ونظراً لكون القوتين غير راغبتين في خوض أي صراع مباشر بينهما أو السماح بإحياء الحرب الباردة مجدداً ، فإن هامش المناورة بينهما يصبح ممكناً لتشكيل عالم جديد شبه ثنائي القطبية .
الدخول الروسي العسكري والسياسي إلى سوريا جاء في حقيقتِهِ بالتنسيق مع أمريكا ومنسجماً مع الأهداف الإستراتيجية الروسية أكثر منه دعماً لنظام بشار الأسد وما يمثله أو إنقاذاً لسوريا من حرب مدمرة . فروسيا الإتحادية لا تبني سياساتها الخارجية على أسس عقائدية أو فكرية أو عاطفية بل على أساس واحد هو مدى إستجابة تلك السياسات للمصالح الروسية . وعلى هذا الأساس فإن كل من يتوقع المعجزات من وراء هذا التدخل سيكتشف أن الأمر ليس كذلك .
بإختصار شديد فإن الصفقة في سوريا تمت بطلب النظام السوري وإستجابة روسيا وصمت وعدم ممانعة أمريكا . هذه هي الحقيقة ، والخاسر الوحيد من هذه الصفقة هو سوريا بالطبع .
التنسيق الروسي – الأمريكي في الموضوع السوري لم يرقى إلى مستوى التنسيق بين الأصدقاء أو الحلفاء ، وإنما كان تنسيقاً يستند إلى ضرورات الأمر الواقع . فقد جاء هذا التنسيق للحد من إمتداد النفوذ الإيراني إلى لبنان وسوريا والعراق الأمر الذي لا تقبله أمريكا . وفي حين لم تكن أمريكا راغبة في التورط العسكري المباشر في تلك الدول كانت روسيا على إستعداد لفعل ذلك . وبما أن إمتداد داعش داخل أجزاء من الأراضي السورية والعراقية لم يساعد على إضعاف التواجد والنفوذ الإيراني في تلك المناطق أو إلى إسقاط نظام الأسد ، فإن مطالبة بشار الأسد لروسيا بالتدخل العسكري المباشر حَصَرَ الخيارات أمام أمريكا بالخيار الروسي بإعتباره الأقل خطورة على المصالح الأمريكية فيما لو تم الإتفاق على حصر ذلك التدخل بسوريا فقط .
روسيا أعلنت عن تدخلها إستجابة لطلب الرئيس المأزوم بشار الأسد وهو ، كما أعلنت روسيا ، يمثل الشرعية ، ودخولها يـُعْتـَبر بذلك أمراً شرعياً وليس عدواناً . هذا المدخل للأزمة السورية يضع روسيا في مأزق الإنحياز ابتداءاً ويؤكد بالتالي صعوبة قدرتها على تبني مدخلاً محايداً يـُمَكـﱢنـَها من التعامل بإيجابية مع الأزمة السورية . فبشار الأسد أصبح بحكم موقفه من الصراع الدائر في سوريا رئيساً لفريق من الفرقاء المتقاتلين وليس رئيساً للجمهورية . وروسيا من خلال دعمها الكامل لبشار الأسد أصبحت عملياً منحازة في هذا الصراع لصالح فريق ضد فرقاء آخرين . وتصريح وزير خارجية روسيا "لافروف" بأن هدف روسيا من التواجد في سوريا هو الحفاظ على "الإستقرار" و "الأمن" لا يمكن تحقيقه أو الوصول إليه إلا إذا كان الوجود الروسي في سوريا مقبولاً من معظم الأطراف المتحاربة إن لم يكن جميعها وهذا الأمر غير حاصل حتى الآن .
الهدف الروسي من التدخل في الحرب الدائرة في سوريا هو خلق الأرضية المناسبة والبيئة الصديقة لدعم التواجد الروسي في سوريا ولحقبة غير محدودة ، لا شئ أكثر من ذلك ولا شئ أقل . وكل ما من شأنه أن يساهم في دعم هذه الرؤيا والإستراتيجية سوف يكون منسجماً مع ما تريده روسيا وسيحظى بتأييدها ودعمها . وإذا تطلب الوصول إلى هذه الرؤيا تقسيم سوريا إلى عدة دول فسوف تقوم روسيا بذلك دون أي تردد . وإذا ما تطلب الأمر بقاء سوريا موحدة فسوف تقوم روسيا بذلك أيضاً ودون أي تردد . سوريا ، كوطن ودولة ، لم يعد لها أي قيمة إلا بالقدر الذي تخدم فيه الأهداف والمصالح الروسية .
والحديث عن تقسيم سوريا ليس من المحظورات في القاموس السياسي الروسي بل هو أمر متداول إلى حد كبير سمح مؤخراً بإنتقال أفكار التقسيم من ثلاث دول إلى أربعة دول أحدها في المنطقة الجنوبية الشرقية تكون دولة داعشية . وهذا الأمر ما زال قيد التداول في الأوساط الروسية . وفيما يتعلق بموضوع تقسيم سوريا بشكل عام لا تزال الأمور بالنسبة للروس نابضة وقابلة للتغيير والتبديل في أي وقت تبعاً للتطورات والمتغيرات على الأرض . ولكن تبقى الحقيقة المـﱠرة أن مبدأ التقسيم مطروح على طاولة البحث وبقوة وأن الخيار النهائي هو بيد روسيا . وإسرائيل وأمريكا سعداء بذلك لأن روسيا في نهاية الأمر ليست عدواً لإسرائيل ولأن الجولان المحتل سيفقد من يطالب بتحريره إذا ما إنهار الوطن السوري وتم تقسيمة .
معظم الأنظمة العربية تـَخَلـﱠتْ طواعية عن حالة العداء مع إسرائيل دون وجود سبب أو قوة قاهرة تدفعها لفعل ذلك . والتخلي الطوعي هو أسوأ أنواع الإستسلام وأكثرها سلبية . وروسيا تعلم ذلك جيداً وهي بذلك لا يوجد لديها أي سبب ضاغط يجعل من حالة الصداقة التي تربطها مع إسرائيل مشكلة خصوصاً في ظل حالة الضعف والتهتك التي تجعل العرب غير قادرين على ممارسة أي ضغط على روسيا ناهيك عن العلاقات الحميمة المتنامية بين إسرائيل ومعظم الأنظمة العربية . وهذا الواقع يفسح المجال أمام إسرائيل للعب دور قيادي إقليمي بإعتبارها دولة معترف بشرعيتها وليس بإعتبارها دولة إحتلال .
هنالك قوى دولية وإقليمية ستحكم أو تتحكم بالشرق الأوسط عموماً : الدولية هي أمريكا وروسيا والإقليمية هي إسرائيل وإيران ، والباقي يستطيع أن يكتفي بالنظر أو بالفتات . أما تركيا فيبدو أن هنالك إتفاقاً بين روسيا وأمريكا على عدم السماح لها بلعب أي دور مؤثر في الشرق الأوسط وذلك في المدى المنظور .
التغييرات الإستراتيجية التي تعصف بالمنطقة هي أقرب إلى رياح السموم منها إلى رياح التغيير . والمنطقة العربية خصوصاً والشرق الأوسط عموماً تشهد إنهيارات عربية وتغييرات سلبية لفائدة وصالح الآخرين وهم تحديداً أمريكا وروسيا وإسرائيل وإيران . لا يوجد أحد من العرب مِـنْ بين المستفيدين مع أن الضحايا جـُلـُّهم من العرب .
فالعراق مشروع تقسيم وكذلك سوريا و المملكة السعودية . واليمن يـُدَمـﱠر وتسفك دماءه بأيدي عربية وليبيا التي دَمـﱠر القذافي مؤسساتها لا تجد من ينقذها الآن ولبنان الذي يسعى الظلام المذهبي إلى إطفاء شعـلته يدفع ثمن دوره الحضاري والعـروبي . ومصر القلب العربي النابض أصبحت الآن القلب العربي العليل والباقي ينتظر .
روسيا تدخل المنطقة في الوقت الذي تؤكد فيه أمريكا على رغبتها في الإنسحاب منها . وهذا لا يعني الإنسحاب بالمفهوم المادي بقدر ما يعني سقوط منطقة الشرق الأوسط من سلم الأولويات والإهتمام الأمريكي لأنه لم يعد هنالك أي نوع من أنواع المقاومة لما تريده أمريكا ويستدعي ضرورة تواجدها في المنطقة بشكل مباشر . وروسيا على ما يبدو تريد في نهاية الأمر نفس الشئ من سوريا، أي الخضوع الكامل ، وإيران تريده أيضاًَ من العراق وسوريا ولبنان إذا أمكنها ذلك . والعرب أوصلوا أنفسهم إلى هذه المرحلة بأنفسهم ومن خلال عدم استعدادهم للتضحية في سبيل ما يريدون . إن الرؤيا الإستراتيجية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط من وجهة نظر القوى الرئيسية الفاعلة والمؤثرة هي بمثابة شهادة وفاة للمنطقة وشعوبها .
الحقبة المقبلة لن تشهد التمدد الروسي فقط ، بل ستشهد تغييرات إستراتيجية عديدة . فالطموحات الإيرانية في المشرق العربي خصوصاً سوريا ولبنان سوف يتم تحجيمها بإرادة أمريكية وموافقة روسية . وحزب الله سوف يتعرض إلى ضغوطات إما عسكرية أو سياسية قد تؤدي إما إلى زواله أو إلى تحوله إلى حزب سياسي لبناني ، وإذا ما تم الخيار الأخير فسيكون بموافقة إيران وقبولها كجزء من صفقة شاملة لتوزيع مناطق النفوذ في الشرق الأوسط ، وحصر مناطق نفوذ إيران في جنوب العـراق فقط . الدور الإقليمي لتركيا سيبقى في المدى المنظور هامشياً . أما بالنسبة لإسرائيل فإن روسيا غير معنية بلعب دور يؤدي إلى تعطيل دورها الإقليمي ، فلا روسيا تريد ذلك ولا إسرائيل تقـبل به . وستبقى أمريكا ، سواء مباشرة ، أو من خلال دول حليفة لها مثل إسرائيل ، القوة المهيمنة على مقدرات باقي دول المنطقة الشرق أوسطية .
إن تجميع أجزاء الكوارث التي تعصف بالعالم العربي سوف يعطي الصورة الكاملة وضوحاً أكثر ويؤكد هول المصيبة التي تعصف بالعالم العربي . فالأمر لا يقف عند حدود عـدوان الآخرين علينا ، بل يمتد ليشمل عدواننا على أنفسنا وهو الأهم والأكثر خطورة . وما يجري الآن إنما هو نتيجة حتمية لسياسات الأنظمة العربية المستبدة التي منعت شعوبها من لعب أي دور سياسي فعال وأفرغت مؤسسات الدولة من أي محتوى وخلقت بذلك فراغاً لم يستطيع أحد أن يملأه وأدى إلى إنهيار العديد من الدول العربية . وبلغ البؤس حداً أصبح بموجبه الإهتمام بالإصلاح أو الديموقراطية قضية هامشية لا تحظى بإهتمام شعبي مقارنة بإهتمام الجميع بالأمن والإستقرار .
* بني هذا المقال بناء على معلومات ومناقشات وحوارات دارت في جلسات وكواليس وأروقة مؤتمر "روسيا ومستقبل الشرق الأوسط" الذي عقد في موسكو في الفترة 25 + 26 شباط 2016 .
www.deyaralnagab.com
|