logo
هوامش على دفتر الأزمة التونسية!!
بقلم : حسن نافعة* ... 08.08.2021

أقدم رئيس الجمهورية التونسية، قيس سعيّد، في 25 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) على اتخاذ جملة من التدابير والقرارات، شملت: تجميد اختصاصات المجلس النيابي شهراً، وضع سلطة النيابة العامة تحت إمرته وسلطته المباشرة، إعفاء رئيس الحكومة من منصبه، تمكينه من سلطات السلطة التنفيذية، بجناحيها الرئاسي والحكومي، وصلاحياتها كافة، بما في ذلك منح نفسه سلطة منفردة لتعيين رئيس الحكومة وإقالته، وتعيين الوزاء بناء على اقتراح الأخير. ويعترف رئيس الجمهورية التونسية أن التدابير التي تم اتخاذها هي بطبيعتها "استثنائية"، ومن ثم مؤقتة. وبرّر اللجوء إليها بوجود خطر داهم يهدّد سلامة الدولة والمجتمع، من وجهة نظره، ويفرض على رئيس الدولة مسؤولية مواجهته، ولو بغير الطرق التقليدية أو الطبيعية. لذا يرى قيس سعيد أن ما قام به لا يعد انقلاباً على النظام الديمقراطي، أو خروجاً على القانون، وأنه تصرّف في حدود ما تقضي به المادة 80 في الدستور التونسي.
تنص المادة 80 من الدستور على: "لرئيس الجمهورية، في حالة وجود خطر داهم مهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيانٍ إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة، لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. وبعد مضيّ ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير، وفي كل وقتٍ بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلبٍ من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرّح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوماً. ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بياناً في ذلك إلى الشعب".
ويتّضح من المقابلة بين النص الحرفي لهذه المادة وما تم اتخاذه بالفعل من قراراتٍ وإجراءات استثنائية أنها تسمح بتأويلاتٍ شتى، قد لا تتطابق بالضرورة مع التفسير الشخصي الذي استند إليه قيس سعيّد، باعتباره أستاذاً للقانون الدستوري قبل أن يكون رئيساً للدولة. ومن ثم، فنحن هنا إزاء قضية خلافية تتعلق بمدى دستورية القرارات والإجراءات المتّخذة، وهي قضيةٌ يستحيل حسمها إلا عبر صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا، جهة الاختصاص الوحيدة المنوط بها الفصل في مثل هذا النوع من المنازعات. ولأن هذه المحكمة لم تشكل في تونس بعد، بل ويعدّ غيابها جزءاً من الأزمة السياسية المحتدمة حالياً، من المستبعد تماماً أن يؤدّي الجدل الدائر، بشأن مدى دستورية التدابير والقرارات التي صدرت بالفعل، إلى العثور على مخرجٍ من أزمةٍ عميقة يمر بها النظام التونسي حالياً. لذا، القضية الجوهرية التي ينبغي أن تنشغل بها كل أطراف المعادلة السياسية في تونس يجب أن تدور حول كيفية معالجة الأزمة الأصلية التي دفعت الرئيس قيس سعيد إلى اتخاذ "تدابير استثنائية"، وليس حول البحث في مدى دستورية هذه التدابير أو عدم دستوريتها، فالعبرة، في النهاية، تتعلق بمدى فاعلية هذه التدابير والإجراءات، وبالتالي قدرتها على إخراج النظام السياسي التونسي من مأزقه الراهن، وليس حول مدى دستورية أو التدابير والقرارات الاستثنائية التي تم اتخاذها أخيراً أو عدم دستوريتها.
معروفٌ أن تجربة التحول الديمقراطي في تونس، وهي الوحيدة التي أفلتت من كوارث ألمّت بتجارب مماثلة انطلقت مع "ثورات الربيع العربي" منذ أكثر من حقبة، نجحت في إقامة نظام ديمقراطي مكتمل الأضلاع، يتضمن دستوراً تم تبنّيه بالتوافق والرضى العام، ورئيساً للدولة منتخباً بالاقتراع المباشر، وسلطة تشريعية ممثلة لأغلب، إن لم يكن جميع، القوى والتيارات السياسية والفكرية في المجتمع التونسي. الأهم أن هذا النظام الديمقراطي شكلاً استطاع، على الرغم مما مرّ به من تقلبات وتجاذبات ومنعطفات حادّة، توفير مناخٍ من الحريات العامة وكفالة حقوق الإنسان تحسُده عليه كل الدول والأنظمة العربية الأخرى. ولكن سرعان ما تبيّن أن توفر معظم متطلبات الشكل الديمقراطي في النظام الحاكم لا يضمن، بالضرورة، قوة الدولة التي يديرها هذا النظام، ولا فاعليتها وكفاءتها، ما أدّى إلى تعرّض الدولة التونسية، أخيراً، خصوصاً في ظل استمرار جائحة كوفيد 19، إلى هزّاتٍ تنذر بانهيارات سياسية واجتماعية وصحية حادّة، وتفسّر، إلى حد كبير، لجوء الرئيس قيس سعيّد إلى الإجراءات والقرارات الاستثنائية التي اضطر لاتخاذها أخيراً.
أُدرك أن تجربة التحول الديمقراطي في تونس تختلف جذرياً عن مثيلتها في مصر، فالدور السياسي للجيش المصري يختلف تاريخياً عن مثيله التونسي. ويتمتع المجتمع المدني في تونس بالقوة والحيوية اللتين تمكنانه أحياناً من لعب أدوار سياسية إنقاذية، يصعب على المجتمع المدني في مصر أن يقوم بها. وتتمتع حركة النهضة التونسية، المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، بدرجةٍ من النضج السياسي تضفي عليها براغماتية فكرية وحركية تمكّنها من تجنّب الصدام في أحيان كثيرة، وهو ما لا يتوفر بالقدر نفسه لجماعة الإخوان في مصر. وعلى الرغم من ذلك كله، لا أستطيع مقاومة إغراءٍ يدفعني إلى عقد مقارنة بين ما اتخذه رئيس الدولة التونسي أخيراً من قرارات وإجراءات "استثنائية" و"إعلان دستوري" كان رئيس الدولة المصري في ذلك الوقت، محمد مرسي، قد أصدره في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2012. المفارقة هنا أننا إزاء رئيسين، وصلا إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، لكن أحدهما، قيس سعيّد، يعد شخصية مستقلة تنظيمياً ومنتمية فكرياً للتيار "العلماني"، أما الآخر، محمد مرسي، فشخصية منخرطة تنظيمياً ومنتمية فكرياً لتيار "الإسلام السياسي". ومع ذلك، اختلف رد فعل القوى المناوئة أو المؤيدة لهما على ما اتخذاه من إجراءاتٍ في الحالتين، فعندما كان تيار الإسلام السياسي في موقع الحكم وممارسة السلطة، كما في حالة مرسي، اتخذ موقفاً مدافعاً بشدة عن قراراتٍ وإجراءاتٍ أدت إلى تركيز السلطات الثلاث في يد رئيس الدولة، بدعوى أنه رئيس منتخب ديمقراطياً، وبالتالي يعبّر عن إرادة الشعب، وأن ما اتخذ من إجراءات استثنائية كان ضرورياً لمواجهة مؤامرات "الدولة العميقة" التي قيل إنها كانت تعد لثورة مضادّة في ذلك الوقت. ولأنها لم تكن حجّةً مقنعة لباقي التيارات السياسية والفكرية، فقد رأت فيها الأخيرة دليلاً على أن جماعة الإخوان المسلمين تريد الانفراد بالحكم وسرقة مكتسبات الثورة، ما شكّل نقطة انطلاق لسلسلة احتجاجات جماهيرية، راحت تتسع إلى أن انفجرت في مظاهراتٍ ضخمة اندلعت في 30 يونيو/ حزيران 2013، واستغلها الجيش لعزل الرئيس المنتخب، وإجهاض التجربة الديمقراطية في مصر بالكامل.
الصورة اليوم في تونس معكوسة تماماً، فالرئيس الذي لجأ إلى إجراءات استثنائية ينتمي، هذه المرّة، إلى التيار "العلماني"، بينما تنتمي القوى المناوئة له إلى تيار الاسلام السياسي الذي تقوده حركة النهضة التي لم تتردّد في وصف الإجراءات الاستثنائية التي لجأ إليها قيس سعيّد انتهاكاً للدستور وانقلاباً على الديمقراطية، من دون أن يشفع له كونه رئيساً وصل إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، ومن ثم يفترض أن يكون معبّراً عن إرادة الشعب التونسي ككل. وقد خطر لرئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، أن يدعو أنصاره في البداية إلى مقاومة "الانقلاب" عبر تحريك الشارع، لكنه تراجع فيما بعد لحسن الحظ، ولو فعل لارتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبته جماعة الإخوان المسلمين في مصر وانتهى بكارثة كبرى، خصوصاً وقد بدا واضحاً أن الإجراءات الاستثنائية التي اتّخذها سعيد تحظى بتأييد ملحوظ، ليس فقط من تيار سياسي تونسي عريض، ولكن أيضاً من الجيش والأجهزة الأمنية.
تخوض تجربة التحوّل الديمقراطي في تونس محنة كبرى في هذه المرحلة، نتمنّى أن تخرج منها معافاة ومحافظة على مكتسباتها الرئيسية، وفي مقدمتها المكتسبات الخاصة بتوفر الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، فقد ثبت أن النظام الذي أفرزته التجربة التونسية لم يكن قابلاً للاستمرار أو قادراً عليه، بسبب صراعات مريرة ومستمرّة بين رئاسات الدولة والحكومة والبرلمان، فقد أدّت التجاذبات المستمرة فيما بين هذه الرئاسات إلى شلل الدولة، وعطّلت قدرتها على الاستجابة إلى طموحات المواطن التونسي في التنمية والاستقرار والعدالة الاجتماعية. لذا تبدو الحاجة ماسّة إلى خريطة طريق واضحة تسمح بالخروج السريع من تلك الهوّة السحيقة التي وقعت فيها النظام، وهو ما يضع كلا من المجتمع المدني التونسي وحركة النهضة أمام اختبارٍ نأمل أن ينجحا فيه.
نجاح تجربة التحول الديمقراطي في تونس مسألة حيوية، لأنها لا تهم تونس وحدها، وإنما تهم العالم العربي كله.

*كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة*المصدر : العربي الجديد

www.deyaralnagab.com