logo
العالم ما بين العتمة والضوء!!
بقلم :  علي أنوزلا ... 22.10.2022

عندما قال المثقف العضوي الإيطالي أنطونيو غرامشي مقولته الشهيرة "العالم القديم يحتضر، والجديد يتأخّر في الولادة، وما بين العتمة والضوء تظهر الوحوش"، لم يكن بالتأكيد يقصد وضعنا الحالي. فالفيلسوف الإيطالي الذي توفي في السجن تحت التعذيب عام 1937، ترك خلفه عالماً مضطرباً تحكُمه الوحوش التي ساقت البشرية إلى أبشع حرب كونية ذهب ضحيتها الملايين من البشر في جميع أنحاء العالم. فما أشبه ما نعيشه اليوم بتلك السنوات العصيبة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، ولا يعني هذا أننا ذاهبون حتماً إلى حربٍ عالمية ثالثة، لكن فترة المخاض الحالية تشبه، إلى حد كبير، تلك المرحلة التي قال فيها غرامشي مقولته الشهيرة التي صارت مضرباً للأمثال في الفترات الانتقالية الصعبة.
وما يعيشه العالم اليوم مرحلة انتقالية صعبة تُعلن انتهاء فترة أحادية القطب أو على الأقل فشلها بما أنها لم تؤدِّ إلا إلى حروبٍ متتالية من أفغانستان إلى العراق، مروراً بما سمّيت "الحرب العالمية على الإرهاب"، فمن أجل إدامة نفسها إمبراطورية قوية، ووقف تآكل العولمة أحادية القطب، لم تتردّد أميركا في زرع الفوضى في جميع أنحاء العالم من خلال حروب بلا نهاية شنتها على عدة دول تجمع بين العمل العسكري ومجموعة أدوات زعزعة الاستقرار الأخرى التي تتقن استعمالها، من عقوبات اقتصادية وحصار اقتصادي وحرمان من التكنولوجيا المتطورة وحروب تجسّس وحروب سيبرانية، وصولاً إلى الحرب المشتعلة في أوكرانيا التي يُنظر إليها على أنها تمثل النهاية الرسمية لفترة شبه السلام المضطرب الذي أعقب نهاية الحرب الباردة.
خطورة هذه الحرب تكمن في أنها أول حرب بين قوى عظمى متنافسة، بالرغم من أنها تُدار من الجانب الغربي الأميركي بالوكالة، وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على اندلاعها، فلا نهاية لها تلوح في الأفق. على الجبهة العسكرية، ما زال الصراع متعثراً، ومن الجانبين الروسي والأوكراني لم يتحقق أي شيء كان مخططاً له في البداية، فلا روسيا حققت انتصارها الخاطف على القوات الأوكرانية، ولا العقوبات الغربية نجحت في انهيار الاقتصاد الروسي كما كان يتوقع الخبراء الغربيون، ولا الصراع امتدّ إلى خارج الحدود الأوكرانية، ولا الرئيس الروسي، بوتين، استخدم أسلحته النووية التي طالما لوّح باستعمالها. في مقابل ذلك، تستمر حرب استنزاف مدمّرة على حساب خسائر فادحة تطاول دولاً وشعوباً بعيدة عن الرهانات الاستراتيجية لهذه الحرب، ما يزيد من حالة عدم اليقين الذي يواجه الجميع في العالم، بما أن التأثير الاقتصادي المدمر لهذه الحرب وتكاليفها المادية في تصاعد كل يوم.
وفي انتظار أن تنتهي هذه الحرب ذات يوم، لأنه عاجلاً أو آجلاً، ومهما طال أمدها، سيأتي اليوم الذي سيتوقف فيه القتال، يبدو العالم كله في حيرةٍ من أمره بشأن عواقبها، لا أحد يعرف كيف أو متى ستنتهي أو ماذا سيكون القرار النهائي للخائضين غمارها. عندما ننظر إلى شروط كييف ومعها الغرب، لن تنتهي الحرب حتى تستعيد أوكرانيا جميع أراضيها المحتلة، وطرد آخر جندي روسي منها، وبالنسبة إلى موسكو، هي لم تحدّد جدولاً زمنياً لما تسمّيه "عمليتها العسكرية" في أوكرانيا، والنتيجة ستكون صراعاً طويل الأمد كجزء من استراتيجية الولايات المتحدة لتقويض روسيا التي تنافس زعامتها على العالم.
لقد انتهى زمن الحروب التكتيكية بلا نهاية التي شنتها أميركا خلال فترة تسيّدها على العالم قطباً أحادياً حكمت فيه العالم بأهوائها منذ نهاية الحرب الباردة لإدامة الفوضى، ودخلنا إلى زمن الحروب الاستراتيجية الكبرى التي سيكون البقاء فيها للأقوى، والبعد الاستراتيجي الكبير للحرب الجارية في أوكرانيا، لكونها بمثابة الإعلان الرسمي لنهاية فترة ما بعد الحرب الباردة، لأنها أنهت زمن احتكار العمل العسكري الخارجي على الولايات المتحدة، عندما ظهرت قوة عظمى تحمل السلاح خارج حدودها، وتفعل ذلك كتحدٍّ مباشر ومعلن للسياسة الأميركية في العالم. ولسوء حظ أوكرانيا أنها الدولة التي اجتمعت فيها كل الشروط لحدوث هذه المواجهة المدمّرة. فهي جارة روسيا الخصم التاريخي والإيديولوجي لأميركا، وهي المعبر نحو أوراسيا الكبرى، وهي ليست عضواً في حلف الناتو حتى تسبّب حرباً مباشرة بين الغرب وروسيا. وما يتمناه أكثر المتفائلين ألّا يتصاعد الصراع إلى خارج حدود أوكرانيا، ويتحوّل إلى حرب عالمية مدمّرة، في ظل وجود عدد غير قليل من المتهوّرين الذين قد يدفعون العالم نحو حرب نووية تقضي على الوجود البشري فوق الأرض.
كيفما كانت نهاية هذه الحرب ونتيجتها، يتفق مراقبون عديدون على أن تأثيرها سيكون دراماتيكياً وعميقاً بتوازن القوى العالمي. إنها بمثابة لحظة فاصلة، وعلامة كبيرة على مفترق طرق كبير مفتوحة على كل الاحتمالات. وإذا ما صدقنا المقولة التي تُنسب إلى كارل ماركس، أن "التاريخ يعيد نفسه مرّتين، الأولى كمأساة والثانية كمهزلة"، فإن نهاية هذه الحرب بإعلان انتصار أوكرانيا ومن ورائها الغرب لن تؤدّي حتماً إلى تأكيد "أحادية القطبية" وتثبيت هيمنة "النظام الليبرالي"، وتأكيد نظرية "نهاية التاريخ" التي سبق أن تنبأ بها فرانسيس فوكوياما قبل عشرين سنة، قبل أن يتخلى عنها هو نفسه، بل ستؤدّي إلى فوضى عارمة ستكون روسيا بؤرتها، لكنها ستعمّ العالم وتأتي على الأخضر واليابس في كل مكان. وفي حال خروج روسيا منتصرة من هذه الحرب، سيعطي هذا الانتصار حياة جديدة للأنظمة الاستبدادية والأوتوقراطية في العالم، وسيشجّعها على تقوية شوكتها وزيادة بطشها بشعوبها. والأكيد أن العالم لن يعود إلى الثنائية الوهمية "الديمقراطية مقابل السلطوية" التي أسّست عليها أميركا سياستها الخارجية طوال فترة ما بعد الحرب الباردة، بما أنها أثبتت زيفها وفشلها. وفي المقابل، لن يكون المستقبل الناشئ "نظاماً ليبرالياً" متمركزاً حول الولايات المتحدة ولا "نظاماً استبدادياً" متمركزاً حول الصين وروسيا، بل فوضى عالمية تدخل العالم إلى البرزخ ما بين العتمة والضوء الذي تظهر فيه "وحوش غرامشي".
في مقال لأستاذ الجغرافيا السياسية، الكاتب الأميركي، روبرت كابلان، نشره في مجلة فورين أفيرز، يذكّر بأن الحروب تمثل لحظات مفصلية في تاريخ الدول والإمبراطوريات التي انهارت بسبب حروبٍ خاضتها وتبع انهيارها الفوضى واندلاع حروب أخرى. ويسترجع الكاتب أحداثاً تاريخية فاصلة لقراءة المشهد اليوم، في ضوء الحرب الأوكرانية وما تمثله تبعاتها على مستقبل دول عظمى، مثل روسيا وأميركا والصين، التي يقول الكاتب إنها "قد تكون أكثر هشاشة مما تبدو عليه"، فهي تواجه اليوم مستقبلاً يكتنفه الغموض لا يُستبعد فيه انهيارها أو تعرضها لنوع من التفكّك مع ما قد يترتب عن ذلك من فوضى قد تعمّ العالم وحروب تندلع في كل مكان.
ولتجنّب الوصول إلى مرحلة الفوضى هذه، تبقى القوة الوحيدة القادرة على إنهاء هذه الحرب بأقل الخسائر المسجلة، وتجنيب العالم الذهاب نحو الكارثة، الرأي العام الغربي الذي وفر منذ اندلاعها قوة دعم دافعة لحكومات بلدانه للانخراط في دعمها، فإلى متى يمكن القادة الغربيين إقناع مواطنيهم بتمويل مجهود بلدانهم الحربي في أوكرانيا، عندما ترتفع فواتير الغاز والكهرباء هذا الشتاء؟ وفي ظل وجود اقتصادات غربية أضعفها التضخّم ومهدّدة بالركود، ما هو الثمن الذي يستعد الأوروبيون لـتقديمه "ثمناً لحريتهم وقيمهم"، كما يقول إعلامهم؟ الجواب عن هذه الأسئلة هو الذي سيأتي بقليل من الضوء لينير نهاية النفق.

* المصدر : العربي الجديد

www.deyaralnagab.com