أحدث الأخبار
الثلاثاء 02 كانون أول/ديسمبر 2025
سراييفو..البوسنة:7600 مفقود وأكثر... ماذا تخبرنا البوسنة عن ضحايا الإبادة في غزّة؟!
02.12.2025

*كتب خالد أصلان..رغم مرور ثلاثة عقود على نهاية حرب البوسنة والهرسك (1992-1995)، لا يزال نحو 7600 شخص في عداد المفقودين حتى اليوم، في واقع يقدّم صورة قاتمة لأهالي ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث تتكشف مأساة المفقودين يوماً بعد يوم.فمنذ انتهاء الحرب التي أودت بحياة نحو 100 ألف شخص، معظمهم من المسلمين البوشناق، يواصل مختصون دوليون البحث عن رفات الضحايا وتحديد هوياتهم، ورغم العثور على آلاف منها، لا تزال آلاف أخرى بلا أثر، بينها ألف مفقود في سربرينيتسا وحدها، وفق معهد المفقودين في البوسنة والهرسك. فقد عمدت قوات صرب البوسنة إلى حفر مقابر جماعية وتمزيق الجثث ونقلها وإعادة دفنها، ما أدى إلى تشويه الأجساد وتقطيع العظام وصعوبة التعرف إلى الضحايا.ويشير مختصون إلى تشابه كبير بين ما جرى في البوسنة وما قامت به قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال سنتين من العدوان على غزة، حيث أظهرت الجثامين التي تسلمتها وزارة الصحة الفلسطينية آثار تعذيب وتنكيل شديدين، شملت جروحاً مفتوحة، وقلع أعين، وكسوراً في الفك والأسنان، وطلقات من مسافات قريبة، وآثار جنازير دبابات، إضافة إلى جثث، وجد أصحابها مكبلين، أو محروقة أو ممزقة. وأكدت وزارة الصحة أن جميع الجثامين التي تسلمتها "تعرضت لتهشيم وتنكيل".في مستشفى ناصر في خانيونس، تجتمع عائلات الشهداء بين حين وآخر في قاعة الانتظار، تتابع صوراً لجثث متحللة بحثاً عن ملامح تدل على ذويها. وتعود هذه الصور لجثامين أسرى فلسطينيين أعادتهم إسرائيل مقابل جثث لإسرائيليين، ضمن اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 10 أكتوبر/تشرين الأول، حيث سلّمت إسرائيل 345 جثماناً منذ 14 أكتوبر حتى 26 نوفمبر/تشرين الثاني ، تعرفت وزارة الصحة إلى 99 فقط منها.ولا يُعرف على وجه الدقة عدد الجثامين التي تعتزم إسرائيل تسليمها، لكن صحيفة "هآرتس" العبرية كشفت في منتصف يوليو/تموز الماضي أن الجيش الإسرائيلي يحتجز نحو 1500 جثمان لفلسطينيين من غزة داخل معسكر "سدي تيمان" سيئ الصيت، في ظروف غامضة ودون الكشف عن هوياتهم.غير أن هذه الجثامين لا تمثل إلا جزءاً من المأساة، إذ تشير تقديرات فلسطينية إلى وجود آلاف المفقودين تحت الأنقاض. وقدّر الدفاع المدني العدد بنحو 9500 مفقود، فيما أعلن "المركز الفلسطيني للمفقودين والمختفين قسراً" أن العدد يتراوح بين 8 و9 آلاف.وفيما يعمل خبراء دوليون منذ ثلاثة عقود في البوسنة على فحص الرفات وتحديد الهويات، تعتمد غزة اليوم على جهود عائلات المفقودين وحدها، بعد تدمير الاحتلال للمستشفيات والمختبرات. ويقول مدير دائرة الطب الشرعي في مستشفى ناصر، أحمد ضهير، إن التعرف إلى الجثامين عملية معقدة بسبب نقص الكوادر، وغياب مختصين في علم العظام وطب الأسنان الشرعي، وعدم توفر جهازَي الأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي، أو مختبرات السموم والأنسجة والحمض النووي.ويشير ضهير في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن "البنية الصحية متهالكة بفعل الحرب"، محذراً من تكرار سيناريو البوسنة، خصوصاً مع وجود جثامين في مناطق خاضعة لسيطرة جيش الاحتلال ضمن ما يعرف بـ"الخط الأصفر" والتي تشكل 53% من مساحة قطاع غزة. وفي ظل هذه الإمكانات المتواضعة، استبعد ضهير إمكانية الوصول إلى الرفات جميعه، لا سيما بعد تحول كثير منه إلى عظام بفعل مرور الزمن أو نهش الحيوانات.وبسبب محدودية الإمكانات، يعتمد التعرف إلى الضحايا غالباً على الملابس وبعض الصفات الجسدية، ما يضاعف صعوبة تحديد الهوية. وتزداد المأساة مع محدودية قدرة ثلاجات الموتى، إذ قال مدير عام المستشفيات في غزة، محمد زقوت، إن الجثامين غير المعروفة تُدفن بعد عشرة أيام وفق خريطة مكانية تحفظ مواقعها.وتشير جهود المقاومة الفلسطينية بعد وقف إطلاق النار، والتي نجحت في استخراج جثث 28 إسرائيلياً، إلى حجم التحديات في ظل غياب المعدات اللازمة. ويثير هذا الواقع تساؤلات حول قدرة غزّة على انتشال آلاف المفقودين، وتحديد هوياتهم، وتوثيق الجرائم المرتكبة بحقهم، في ظل مقتل أكثر من 69 ألف فلسطيني خلال العامين الماضيين.مع ذلك، تقدّم تجربة البوسنة والهرسك نموذجاً يمكن الاستفادة منه. إذ أكد رئيس مكتب المفقودين في بيهاتش، موجو بيجيتش، خلال مؤتمر الطب الشرعي في أنطاليا (22-28 سبتمبر/ أيلول) الماضي، أن "التقنيات الحديثة تجعل من الممكن تحديد هوية الضحايا حتى عندما يحاول الجناة إخفاء الأدلة"، مشيراً إلى إمكانية تطبيق النموذج في غزة. كما يشير رئيس الجمعية الكوسوفية لعلوم الطب الشرعي، نعيم أوكا، إلى أن أخطاء التعرف إلى الجثث قد تسبب معاناة طويلة الأمد، مستشهداً بتجارب كوسوفو حيث دُفن ضحايا مجهولون خطأً في مقابر عائلات أخرى. وأكد أوكا في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الاعتماد فقط على الملابس في تحديد هويات جثامين قطاع غزة "خطأ جوهري"، حيث شدد على ضرورة توفير ظروف علمية دقيقة، مشيراً إلى أن "إسرائيل تملك إمكانات كبيرة لإخفاء الجرائم، وأن العثور على المقابر الجماعية قد يكون مستحيلاً دون معلومات".وتطرق إلى تجربة كوسوفو، خلال حرب 1998-1999، التي قُتل فيها نحو 13 ألف شخص وفُقد الآلاف. فقد دُفن العديد من الضحايا الألبان في مقابر جماعية، ونُقل بعضهم لاحقًا إلى مواقع سرية داخل صربيا في محاولة لإخفاء الأدلة، فيما لا يزال أكثر من 1600 شخص في عداد المفقودين حتى اليوم.وقال أوكا: "واجهنا حالات دفنت فيها عائلات أفراد آخرين ظناً منها أنها تدفن أقاربها. وخلال عملية تحديد الهوية الجنائية الرسمية، اكتشفنا لاحقاً أن الشخص المدفون هو شخص آخر تماماً". وذكر أن "مثل هذه الحالات تسببت في معاناة شديدة للعائلات المعنية. وبناء على تجربتنا، ومراقبة الطريقة التي بدأت بها عملية تحديد الهوية في غزة، أشعر بالقلق من أن الشعب الفلسطيني قد يواجه العواقب المؤلمة نفسها".ورغم المستقبل الغامض لملف المفقودين في غزة، يؤكد الخبيران البوسني والكوسوفي أن التحقيقات الجنائية والتعاون الدولي هما الطريق الوحيد لكشف الحقيقة، وتحديد الهوية، وضمان المساءلة!!
*المصدر : العربي الجديد


1