أحدث الأخبار
الثلاثاء 09 كانون أول/ديسمبر 2025
1 2 3 48384
غزيون ينتشلون ويدفنون أحبابا ارتقوا في حرب الإبادة.. جرح يتجدد في مستشفى الشفاء!!
09.12.2025

في ساحة مستشفى الشفاء في مدينة غزة، يقف المواطن الخمسيني عطا البراوي، وقد ارتسمت على وجهه آثار الحزن والدهشة، وهو يحاول تنظيم نفسه لاستقبال مهمة لم يكن يظن أنه سيعايشها مرة ثانية، وهي إعادة دفن جثمان ابنه. يقول بصوت مذبوح: “كنت أظن أنني دفنت ابني مرة واحدة، وأن الحزن انتهى عند ذلك اليوم”.
وجع يُنبش من جديد
يروي البراوي تفاصيل المأساة: “قبل عام ونصف كان ابني يرفع أثاث منزلنا على عربة نقل كي ننزح من حي الكرامة إلى جنوب القطاع، واستُشهد فوق السيارة بقصف طائرة كواد كابتر إسرائيلية”.ويضيف لـ”القدس العربي”: “نُقل إلى مستشفى الشفاء، وبسبب الحصار الإسرائيلي للمستشفى في بداية الحرب، اضطررت لدفنه في محيطه”.يتوقف عطا للحظة، كأنه يوزع الكلمات على قلبه قبل أن تخرج. “مشاعر الحزن لدي فُتحت من جديد، لقد دفنته منذ عام ونصف، والله دمعة أمه لم تجف بعد. هي مصابة بالسرطان، وأصابها الجنون حزنًا عليه، واليوم سنقوم بنقل جثمانه إلى المقابر الموجودة في حي الشيخ رضوان”.ينحني قليلًا أمام القبر الذي دُفن فيه ابنه مؤقتًا، ويهمس: “كان ابني قريبًا من ربه، يعبد الله حق العبادة، ويعمل خيرًا للناس. كان محبوبًا بين الجميع، واستشهاده أحدث فاجعة في المنطقة التي يسكن فيها”. تنساب الكلمات بصعوبة، كما لو كانت تحاول ترويض ألم لا ينتهي.
ساحة الحزن المستمر
منذ أيار/ مايو 2024 تعمل طواقم الدفاع المدني في مدينة غزة على انتشال جثامين الشهداء المدفونين في المقبرة الجماعية بساحة مستشفى الشفاء باستخدام معدات بدائية، في عملية تُنفذ ببطء وحذر شديدين نظرًا لتدهور المكان وخراب أجزاء واسعة منه بعد الاقتحامين الإسرائيليين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 وآذار/ مارس 2024.وخلال تلك المهمة المتواصلة، تنسق “وزارة الصحة” مع ذوي الشهداء للتعرف عليهم ونقلهم إلى مقابر شرعية تراعي كرامتهم وحقهم في الدفن اللائق.أعمال الانتشال التي تشهدها ساحة مستشفى الشفاء ليست مجرد نقل جثامين، بل هي استحضار لمشاهد الحرب، وإعادة فتح جراح غزية لم تلتئم بعد. فمنذ الاقتحام الإسرائيلي الأول للمستشفى في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، دفن المواطن الفلسطيني الأربعيني سامر الحج جثامين أخت زوجته وأولادها في ساحة المستشفى.
يقول لـ”القدس العربي”: “أتينا لاستخراج جثامين أخت زوجتي وأولادها. دفناهم هنا قبل عام ونصف خلال الاجتياح الأول لمستشفى الشفاء”. ويتابع “وزارة الصحة طالبتنا بانتشال موتانا من ساحة المستشفى لتقوم بتوسعات في المستشفى. رأيت في منامي أنني سأفتح القبر وأجدهم كما هم، بكامل هيئتهم. شعورنا صعب للغاية”.يؤكد سامر لـ”القدس العربي”: “العائلة بأكملها تشعر بحزن كبير عليهم. نحن نغضب من أجلهم، ولكن الحمد لله، كل واحد يأخذ نصيبه، ونحتسبهم عند الله شهداء”.في كل ركن من أركان الساحة، تتردد هذه المشاعر، وكأن المستشفى ذاته يئن تحت ثقل الموت والذكريات.يعيش المواطن الستيني خليل الشوا تجربة مشابهة. فقد دفن أولاد أخته في مستشفى الشفاء خلال الحرب أيضا. “الدبابات كانت تحاصر المستشفى، والقصف كان عنيفًا جدًا، واضطررنا لدفنهم هنا لأن الأسر التي في الشمال نزحت إلى الجنوب”، بينما لا تفارق عيناه المكان الذي تحوّل إلى قبور مؤقتة لعائلته. ويضيف: “أنا خال الأولاد، ولم يكن هناك أحد لدفنهم سواي”.اليوم، يعيد خليل الشوا انتشال جثامين أحبّته لنقلهم إلى المقبرة القريبة من المستشفى العربي المعمداني. ويوضح لـ”القدس العربي”: “تحسّنت الأوضاع الآن، ونقوم بنقلهم إلى المقبرة بطريقة لائقة”.
دفن جماعي في ظل الحرب
شهدت غزة خلال الحرب عمليات دفن واسعة للجثامين في مقابر مؤقتة وجماعية، خصوصًا في المناطق المحاصرة بمدينة غزة وشمال القطاع، إلى جانب الدفن العشوائي في ساحات المدارس والمستشفيات والشوارع والأسواق، نتيجة عدم القدرة على الوصول إلى المقابر الرسمية.وبحسب “المكتب الإعلامي الحكومي” في غزة، عثرت الطواقم الطبية في أيار/ مايو 2024 على مقبرة جماعية داخل مجمع الشفاء، جرى انتشال عشرات الجثامين منها.وباشرت وزارة الصحة في غزة نقل الجثامين المدفونة داخل المجمع، ضمن جهود إعادة تأهيله وإقامة توسعات بديلة عن الأقسام التي دمرتها إسرائيل خلال حرب الإبادة.
*مدير مستشفى الشفاء: الجثامين المتبقية في الساحة ستعدّ مجهولة بعد تاريخ الثلاثاء
وقال مدير مستشفى الشفاء الطبي محمد أبو سلمية: “إدارة مجمع الشفاء تعمل على إعادة تنظيم وتأهيل الخدمة الصحية من خلال إقامة توسعات ميدانية بديلة عن المباني والأقسام المدمرة”.وأوضح لـ”القدس العربي” أن جميع الجثامين المتبقية في ساحة المستشفى ستعدّ مجهولة بعد اليوم الثلاثاء، وستنقل إلى مقبرة دير البلح. هذه الخطوة تأتي في سياق مساعي إعادة تأهيل المستشفى، لكن أثرها النفسي على ذوي الشهداء أكبر بكثير من أي إجراء إداري أو صحي.
شهادات الألم المستمر
يتذكر سامر الحج أولاد أخت زوجته الذين دفنهم قبل عام ونصف. يقول: “مشاعر الحزن تجددت لدينا مرة أخرى. شعورنا صعب جدًا. كانت تلك الأسرة تعز علينا كثيرًا”. ثم يضيف: “وإن شاء الله نجد مقبرة في مكان آمن، لتكريمهم بالدفن اللائق”.أما خليل الشوا فيروي تفاصيل دفن أولاد أخته: “الدفن هنا كان نتيجة الظروف القاسية، كان لا بد من دفنهم مؤقتًا. الآن نعيدهم إلى مقابر شرعية”. ويشير إلى أن “الأوضاع تحسنت، لكن الألم لم يختفِ، كل دفن هو استحضار للحرب”.ويتحدث عطا البراوي عن ابنه الشهيد: “أتذكر طيبته وأخلاقه العالية، استشهاده أحدث فاجعة في المنطقة التي يسكن فيها”. ويضيف: “كان محبوبًا من جميع الناس، ويفعل الخير، وفتح قبره هذا لنقل جثمانه فتح مشاعر الحزن القديمة لدي من جديد”.
الحزن يتجدد والذاكرة لا تموت
في هذا الصدد، يقول أمجد الشوا، مدير “شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية”، في تصريحات لـ”القدس العربي”، إن ما يجري في ساحة مستشفى الشفاء “ليس مجرد عملية انتشال للجثامين أو خطوة تنظيمية تتخذها الجهات المختصة”، بل هو كما يصفه “مواجهة جديدة مع الذاكرة الحية للحرب، ومع الجراح المفتوحة التي لم تندمل بعد”. ويؤكد أن كل جثمان يُستخرج “يحمل معه فصلًا كاملًا من المعاناة، ويعيد أوجاع العائلات التي عاشت أيامًا من الرعب والحصار والمجازر”.ويضيف الشوا أن إعادة دفن الشهداء “ليست إجراء بروتوكوليًا، وإنما محاولة لإعادة الاعتبار لأناس حرموا حتى من حقهم في الوداع الأخير”، مشيرًا إلى أن العائلات التي فقدت أبناءها “لم تعرف الراحة منذ لحظة اندلاع الحرب، التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وخلّفت أكثر من 170 ألف جريح، معظمهم من الأطفال والنساء، ودمّرت ما يقارب 90 في المئة من البنى التحتية المدنية في قطاع غزة”.
*مدير “شبكة المنظمات الأهلية”: إعادة دفن الشهداء محاولة لإعادة الاعتبار لأناس حرموا حتى من حقهم في الوداع الأخير
ويتابع الشوا: “نحن أمام مأساة مركبة؛ فالعائلات لا تعيش فقط صدمة الفقدان، بل تجبر اليوم على فتح القبور من جديد”، ورأى أن هذه العملية الشاقة “تكشف حجم الكارثة الإنسانية التي خلفتها الحرب، وحجم الانهيار الذي طال كل مفاصل الحياة، من المستشفيات المدمرة إلى المقابر التي تحولت إلى ساحات بحث وألم”.ويختم قائلاً: “يبقى السؤال الأعمق: كيف يمكن لمجتمع ذاق كل هذا الخراب أن يدفن الموتى مرة أخرى ويواصل العيش؟ في ساحة الشفاء تجد الإجابة في صمت الأمهات، وفي انحناءة الآباء فوق التراب، وفي كلمات المواطنين الذين يحاولون، كما لو أنهم ينتشلون أنفسهم، أن يعيدوا لأحبتهم كرامتهم الأخيرة ودفنًا يليق بذكراهم”.
*كتب ت بهاء طباسي**المصدر : القدس العربي

1