دفعتنا الأزمة المتصاعدة في لبنان إلى تكثيف متابعتنا لوسائل الإعلام في مجملها، فلا يمتلك المشاهد سوى أن يلحظ ظاهرة تكاد تكون علامة فارقة على صيغة الخطاب العام في هذا البلد صغير المساحة شاهق الصخب، من خطابات السّاسة في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم إلى دردشات مثقفي البلد ونخبته في المقاهي العامّة مروراً بالطبع بمنتجات الفضاء الإعلامي المرئي والمسموع من مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة على تنوعها: إنها غلبة اللغة الهجينة على ألسنة نخبة هذا البلد: فلا هي عربيّة فصيحة (ولا حتى محكيّة خالصة)، ولا بفرنسيّة أو إنكليزيّة، بل مخلوق مشوه يجمع بين تلك جميعاً – على نحو إن كان مقبولاً ومتداولاً في إطار قبيلة النّخبة – إلا أنّه مستفزّ للطبقات الأخرى التي لم تحصل على نعمة التعليم الأجنبي، أو تلك البقيّة القليلة التي تمتلك الحد الأدنى من الكرامة الوطنيّة واحترام الذّات الثقافيّة وحسن اتقان التحوّل بين اللّغات.
*ليس اقتصادياً وسياسياً فحسب اللغة أيضاً موضع جناية النخبة على البلد
هذه اللغة الهجينة المفروضة على أسماعنا جريمة موصوفة بحق المجتمع والأجيال الجديدة، إذ أن اللغة ليست مجرّد أداة ميكانيكيّة للتعبير وتبادل الأفكار ووصف الأشياء بل هي تلعب دوراً أساساً في نمو العقل البشريّ وتطوّر الهويّة الفرديّة وتشكيل الهويّة الجماعيّة فكأنّها جسر يربط الفرد – عبر التواصل مع الآخرين – بالعالم حوله من خلال المعاني، سواء الظاهر منها أو المضمر. والتقاط مورفولوجيا (أنماط تشكيل الكلمات) لغة ما يعني بالضرورة الانخراط في ثقافة وحضارة معينة دون الأخريات، والاشتراك برؤية مختلفة للعالم والحياة تتفاوت من مجموعة بشريّة لأخرى.
كان المستعمرون الأوروبيّون قد عرفوا مبكراً تلك الأبعاد المعقدّة للغة، ومارسوا كجزء محوريّ من عمليّة الهيمنة الكولونياليّة إدارة لغة المستعمرات على نحو يعيد تعريف العالم بالنسبة للخاضعين وتقديمه لهم كحقيقة جديدة وواقع قائم ينبغي لهم تقبله متضمناً بالضرورة موقفاً دونيّاً تجاه حضارة وثقافة المُستعمِر المتفوّق.
*النخب المتغربة: تركة الكولونياليّة البغيضة وأداتها الأفعل
وهكذا نشأت أجيالٌ كاملةٌ من شعوب منطقتنا، وقد تشرّبت نتاج تلك الإدارة الكولونياليّة (الاحتلال المباشر) الموجهة، فترى في لغتها المحليّة تخلفاً عن الحضارة وطرائق التعليم بها بدائيّة، فيما عندها لغة المستعمر وثقافته المعيار والمحكّ والمقياس للالتحاق بركب المتفوقين والتماثل معهم. في لبنان، انتهت النخب اللبنانيّة البرجوازيّة – سواء أثناء عهد الاستعمار الكولونيالي أو بعد الاستقلال (المزعوم) – إلى تبني الفرنسيّة كلغة تمنحهما التقبّل من قبل مسترّقها، فيما تم ازدراء اللغة العربيّة والسخريّة ممن لا يحسنون غيرها والاكتفاء بها كأداة للتواصل – الاضطراري – مع الطبقات الشعبيّة التي لا تسمح لها ظروفها الاقتصادية والاجتماعيّة باتقان الفرنسيّة.
وبالطبع فإن نهاية شكل حكم الاستعمار الكولونيالي في بلادنا ومنها لبنان لم يعني إطلاقاً استقلالاً حقيقيّاً – رغم الأعلام والموسيقى والرموز الشكليّة للدّولة المستحدثة – بل انتقالاً من استعمار مكلف لأصحابه الأوروبيين إلى استعمار نيوكولونيالي أكثر تعقيداً، أقل كلفة تعويلاً على النخبة المتغربة – تفرنساً في لبنان – التي تضمن استمرار ذات النموذج الثقافي والاقتصادي والسياسي الذي أسسه المستعمر الغربيّ دون تغيير فعليّ يذكر. الفرق لبنانياً كان أن النخبة وجدت كفّة الإمبراطوريّة الأمريكيّة قد رجحت، فيما ذوت إمبراطوريّة فرنسا الأم الحنون بعدما أذلها الألمان وتجاوزها التاريخ وصارت مجرد دولة أخرى من دول الاتحاد الأوروبي المعاصر، وهكذا شرعت قطاعات من الأجيال الجديدة – لا سيّما تلك التي تربت في أجواء التعليم الأنكلوفوني في لجامعة الأمريكيّة والمدارس النخبوية المتأمركة في استبدال الفرنسية بالإنكليزية، والاحتفاظ بالعربيّة كلغة اضافيّة للتفاهم مع الطبقات الأدنى في المجتمع وربما أيضاً كممر اقتصادي للتعامل مع الشعوب العربيّة في مجتمعات الخليج.
هذا النمط لناحية التعاطي مع اللغة أنتج ساسة ومثقفين وإعلاميين ومتعلمين متأزمين: فهم متسربلون بدونيّة تجاه لغة المستعمر، لكنهم يتعاطون بفوقيّة مع سكانهم المحليين، فنشأت معهم لغة هجينة يستخدمونها في خطابهم المباشر: عربيّة مكسّرة، لا تخضع للقواعد السليمة لا في الإعراب ولا في النطق، مع تعكّز استعراضي على المصطلحات الغربية، سواء كنزق طبقيّ أو حتى كعجز عن التعبير عن المعنى الذي في الذهن.
ولذا تجد رئيس وزراء لبنان الذي كان ولم يزل نجم ساحات شارعه لا يحسن إلقاء كلمة عامّة باللغة الرسميّة لبلاده، وأكاديميين وقانونيين يغطون على استلابهم الحضاري بالسير في ظل المصطلحات الفكريّة والعلميّة المستوردة، ونواب أمّة – ونائبات – يخاطبون جماهيرهم باستحقار ظاهر – بإدراك أو من دون إدراك – بحيث يستعصي فهمهم لمن يحسن واحدة فقط من اللّغات الثلاث، فيما يتنطّع الإعلاميّون – وكثير منهم أشباه متعلمين صعدوا على محض الولاء دون الكفاءة – في أحاديثهم التلفزيونيّة والإذاعيّة بكلمات إنكليزيّة وفرنسيّة دون داع كاستمرار لماكياج الوجه والشعر وبحة الصوت.
وهذا أمر يستحيل أن تجده لدى الشعوب التي تفهم أن اللغة ليست إلا العامود الفقري للمواطنة فيما يمتلكون ناصية اللغات فوق لغتهم الأم كأدوات تواصل مع الآخر. إذ تخيّل لو أن رئيس وزراء فرنسيّاً مثلاً لا يحسن حتى قراءة نص مكتوب بالفرنسيّة، أو إعلامياً بريطانياً يعتمد جلّ وقته على مصطلحات ألمانيّة لشرح أفكاره، أو نائبة في البرلمان الإيطالي تخاطب جمهورها بخليط من الإيطالية والإنكليزية والألمانيّة أو سياسياً أمريكيّاً يمرر لجمهوره كلمة فرنسيّة بين الجملة والأخرى!
ولعل الأخطر من غلبة لغة النخبة الهجينة على الفضاء العام في لبنان أن السّلطات التي تمسك بمقدرات البلد لا تمتلك الإرادة ولا القدرة على إدارة اللغة بوصفها مكوناً أساساً لوحدة الوطن وهوية مواطنيه. ولذا فهي تمدد سياسة الاستعمار في تدمير التعليم الرسمي العام والمناهج الوطنيّة لصالح الجامعات والمدارس الأجنبيّة أو تلك التي تتبع الإرساليّات الدينية والسفارات.
وهذه فرنسا العجوز المتصابيّة التي تعيش على أوهام إمبراطوريّة ماتت منذ عقود بادرت الأسبوع الماضي – وفق سفيرها إلى لبنان برونو فوشيه – إلى تقديم مساعدات عاجلة ل 53 مدرسة تطبّق المنهاج الفرنسيّ في مستعمرتها السابقة – لا سيّما الكاثوليكيّة منها – شكلاً لإعانتها على تحمّل توابع الأزمة اللبنانيّة على القطاع التربوي وضمناً لتمديد فضاء النفوذ الاستعماري على الأجيال الجديدة من نخبة البلاد. وكان البرلمان الفرنسي قد تداول بالفعل مخاوف من تراجع التعليم الفرانكوفوني في لبنان، وضجّت منابر الإعلام بالدعوة إلى إنقاذ المدارس الفرنسيّة فيه ضمن سياسة «دعم المسيحيين في الشرق الأدنى»، علماَ أن السبعة الكبرى في البلاد – ومنها تلك المنضوية تحت نظام البعثة الفرنسيّة العلمانيّة للتعليم – تحظى بنظام تمويل دائم خاص سابق على الأزمة.
وبالطبع فإن السّلطات اللبنانيّة تقف أمام ذلك كلّه موقف المخصيّ المتفرّج – إن أحسنّا الظن –، بل ووُجه أهالي التلاميذ الفرنكونكوفيين علناً على وسائل الإعلام لتقديم طلباتهم – عبر المدارس – إلى السفارة الفرنسيّة التي ستبت بها مباشرة دون استئناس رأي السلطات المحليّة.
ماذا ستنجب لنا هذه المدارس سوى رؤساء حكومات وأكاديميين ونواباً (ونائبات) وإعلاميين ومثقفين لبنانيين تابعين فكريّاً للأجنبي ومهزومين حضاريّاً أمام (تفوّقه)، فيما يخاطبون أبناء جلدتهم بذات اللغة الهجينة الفرانكشتانيّة التي تبدو والحال هذه كأنها لعنة لبنان وصورة نخبته المشوهة وقدره السيىء.
نخبة لبنان ومذبحة اللغة في الفضاء العام: عن تغييب لغة الناس في الوطن!!
بقلم : ندى حطيط ... 24.07.2020
*المصدر : القدس العربي