لبنانُ، هل سيموتُ الموتُ فيكَ يوماً، وهل ستعيش فيك الحياة؟ قبل الزمان بزمان وقبل الأمكنة أن تكون، تشكلتَ على هيئة وطن، بهيّ البحر، بشمس، كما راقصة ملهى لا تنام، بشعب منذور للألم، يمشي بلا قدمين، نحو قبر مفتوح لأجساد طازجة شهيّة، يُقدّم رجاله ونساءه وأطفاله، المارّة فيكَ يموتون، والذاهبونَ إلى المقهى يموتون، واللاهثونَ وراء الرغيف يموتون، والحالمون بالفرح يموتون، وأما الباقون أحياء فهم أيضا يموتون.
موتٌ بلغ أقصى فجوره يوم «الثلاثاء الأسود» فأحرق البحر وأشعل السماء وأعاد تشكيل الهواء على هيئة سمٍّ، موت قتل لبنان كله، في كارثة فاقت أسوأ التوقعات عن الآتي: انفجار غرائبيّ يهزّ مرفأ بيروت سُمع في قبرص – على بعد مئة ميل – وتسبب بمهرجان من جثث، مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وعشرات المفقودين، الذين ما زالوا تحت الأنقاض، لا يسمع صوتهم إلا الله، بعد أن غادر الصوت هذا الوطن، كما غادره من قبل البصر.
لبنان، الذي يعيش زمناً مستعاراً منتظراً الفائز في السّباق بين الحرب الأهليّة والغزو الإسرائيليّ، ويعاني من سلسة أزمات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة هي الأقسى ربما في تاريخه منذ المجاعة أيّام الحرب العالميّة الأولى، وبالكاد يتماسك في التعامل مع مترتبات وباء الملك كوفيد التاسع عشر، المتصاعدة وضغوط استضافة اللاجئين كما التّدهور الحاد في قيمة العملة الوطنيّة مقابل النقد الأجنبيّ – هذا اللبنان أصيب بحالة من رعب وذهول بحجم أكوان، جراء تفجير فلكيّ الأبعاد بحوالي 3000 طن من مادة نيترات الأمونيا – كانت كميّة محدودة منها لا تتجاوز طنين أو ثلاثة كافية لتفجير أوكلاهوما في الولايات المتحدة (1995) الذي أودى بحياة 168 شخصاً، كما ذلك التفجير الضخم الذي كان أودى بحياة رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وعدد من مرافقيه (2005) -، ولم تجدّ السلطات العاجزة أصلاً من بدّ عن إعلان العاصمة منطقة منكوبة وفرض حالة طوارئ استثنائيّة لمدة أسبوعين، لا سيّما وأن كثيرين تحدثوا عن كارثة بيئية محتملة نتيجة انتشار مواد كيميائيّة خطرة عبر الهواء.
*إعلام محليّ كارثيّ أكثر من الكارثة
في خضمّ هذه الأجواء القاتمة، والظروف الاستثنائيّة كان ناس العاصمة واللبنانيون حول العالم في أمسّ الحاجة للمعلومة الشفيفة، والاطلاع على صورة الحدث كما على الأرض، والتأسيس لمزاج وطنيّ عام من التضامن الإيجابيّ مع ذوي الضحايا والمفقودين. لكن بعض الشاشات اللبنانيّة المزروعة في أصص الطائفيّة المقيتة ومصالح المتنفذين استقالت من مهمتها واختارت ممارسة الدور النقيض تماماً لما يفترض بالوسائل الإعلاميّة القيام به عند مواجهة كارثة وطنيّة بهذا الحجم غير المسبوق. إذ استدعت أغلب تلك القنوات أسوأ تجار سموم الأفاعي لديها، وفتحت لهم الهواء رخيصاً لتوظيف آلام اللبنانيين وأوجاعهم في تصفيّة الحسابات السياسيّة الضيقة، وكيل الشتائم والعبارات النابية بحق المعسكر الآخر، مع استضافة خبراء مزعومين ومحللين مزيفين وشخصيات من الصف العاشر للمشاركة في مهرجانات خوار ولطميات واجترار مملّ لذات القمامة المؤدلجة التي ما لبثت تطلقها على الناس منذ بداية تفاقم التأزم في لبنان 17 أكتوبر / تشرين أول الماضي.
وحتى تغطيات بعض المراسلين من المواقع ونشرات الأخبار توجهت للتصويب على جهات معينة دون أخرى، وتابعت قصص الضحايا للتشفي من طرف دون آخر، لتتحول بعض المؤسسات الإعلاميّة اللبنانية إلى كارثة تامّة، تنذر بسعي أكيد لدى بعض الأطراف التي تديرها بأخذ البلد إلى الهاوية المجهولة خدمة لأجندات مشبوهة.
*والاستشراق غرباً لا يموت
بيروت في المخيال الشعبي الغربيّ ما زالت عالقة داخل صورتها النمطيّة التي رسمها لها الإعلام الغربيّ وقت الحرب الأهليّة ( 1975 – 1990) مدينة للتفجيرات والقتل المجانيّ يلعب فيها الصحافيون الأجانب – تبيّن لاحقاً أن معظمهم كان على ارتباط بأجهزة مخابرات غربيّة – دور السيّاح السذج الذين يتظاهرون بالصدمة من وحشية هؤلاء العرب البدائيين القتلة، دون أي تفسير لخلفيات تلك الحرب التي ربما كانت حرباً أهليّة للضحايا وحدهم، لكنها واقعاً صراع دولي – إقليمي أدارته ووجهته ورعته دول الغرب المتشدقة بالدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان.
ويبدو أن الصحافيين الغربيين الذين يقيمون في العاصمة اللبنانيّة اليوم – بمن فيهم اللبنانيون المغتربون – ما زالوا يعيشون ذات الأوهام الاستشراقية البغيضة، التي لا تموت، ويكتبون من ذات الهراء الذي كان أسلافهم يدبجونه في القرن الماضي ويختصرون آلام الناس بمغامرات شخصيّة وبطولات وهميّة على نسق روايات «إنديانا جونز». هذه مراسلة الـ»نيويورك تايمز» مثلاً لم تجد في الحالة المأساوية سوى أن تدّعي أنها أصيبت بالتفجير جراء تطاير الزجاج في منزلها، ولما لم يستقبلها المستشفى – تخيّل مستشفى لبناني يرفض استقبال صحافيّة غربيّة شقراء – أسعفها المارة الغرباء، الذين بدا أنهم يتمتعون بثبات من عاش خلال كوارث متعاقبة لا تحصى.
وكتبت تقول «لقد كانوا غرباء لم أعرف معظمهم، لكنهم عاملوني كصديقة» كأن الأصل في اللبنانيين التوحش، واللطف مع المصابين الغربيين هو الاستثناء!
وهذه مراسلة «بي بي سي» تنقل إلينا صراخاتها على الهواء مباشرة، عند حدوث الانفجار أثناء إجرائها مقابلة مع أحد الضيوف، وأصرّت القناة على طمأنة الجمهور عدّة مرّات بأنها بخير – ولتذهب المدينة الخلفيّة إلى الجحيم.
فيما تحدّث رئيس تحرير صحيفة لبنانيّة يوميّة تصدر بالإنكليزية لتلفزيون كندي عن مسيرته الشخصيّة الظافرة في تغطية حروب المنطقة منذ 1965 وأنّ التفجير الأخير كان أكثرها تسبباً للذعر في البلاد.
ناهيك بالطبع عن مراسلة الـ«واشنطن بوست» التي غرّدت من صفحتها على «تويتر» بنشر صورة شمعة وحيدة تضيء حيّها المظلم لتقول «لا أقدر على وصف كميّة الصفاء التي تمنحني إياها هذه الشمعة الصغيرة» لتختصر لنا كل ذلك الموت المجاني المعلن بمشاعرها الذاتية المسطحة من شارع متبرجز.
*منتديات التغابي وأندية الخبراء المتطوعين للتضليل
وبينما كانت مقاطع الفيديو للانفجار تجول على مواقع التّواصل الاجتماعي، ظهرت كالجراد أسراب الخبراء والمحللين، الذين اقتطعوا من أوقاتهم الخاصة متطوعين للتضليل مقدمين تفسيراتهم بثقة يحسدها عليهم الأنبياء حول نوعيّة الانفجار وأسبابه من شكل الكتلة الدخانيّة المصاحبة له وحجم (الكعكة) ولونها واتجاه العصف ومداه: قنبلة نووية، هجوم إسرائيلي، انفجار عرضيّ لمستودع أسلحة لحزب الله. آخرون – كانوا قبل تقمصهم دور خبراء المتفجرات يلعبون دور أساتذة علوم الأوبئة وينظّرون للأمّة عن أنجع السبل للتعامل مع فيروس كورونا منتقدين تعاسة أداء الحكومات في هذا الخصوص – كتبوا عن انتقال الرئيس البرتقالي دونالد ترامب للعمل أخيراً بشأن لبنان، أو عن رؤية طائرة حربيّة تلقي بصاروخ على المرفأ أو تعمّد حزب الله صرف الأنظار عن الحكم المتوقع صدوره عن المحكمة الدوليّة المخصصة للنظر في اغتيال الحريري الأب وغير ذلك من الخزعبلات التي لم تربأ بعض الشاشات العربيّة الخالية تماماً من العقول عن ترديدها دون تكليف أنفسهم عناء الاستماع لآراء المتخصصين العسكريين: لا اللبنانيين الذين استبعدوا فرضيّة القصف الإسرائيلي، ولا حتى مسؤولي البنتاغون الأمريكيين، الذين شككوا جهاراً على شاشة «سي أن أن» باحتمال كون التفجير ناتجاً عن هجوم عسكريّ، أقلّه لحين توفر معلومات أخرى نقيضة.
والملفت أن هؤلاء المتطوعين للتضليل يحصلون رغم كل شيء على متابعات كثيفة، ويتناقل أعضاء نوادي التغابي – تويتر وفيسبوك وما بينهما – تعليقاتهم على صفحاتهم الشخصيّة ويسجلون لها الإعجابات، بل وينقضون كالأسود الكاسرة للدفاع عنهم حال تجرأ أحدهم على مصارحة خبيرهم المفضّل بسذاجته.
«*الحقيقة»: أكبر ضحايا الكارثة
وهكذا في عصر تكنولوجيا المعلومات، والبث الفوري للأحداث، والفضاءات التلفزيونيّة المفتوحة على الكون تظافر بعض الإعلام اللبناني الكارثيّ مع زميله العربي والأجنبيّ بالتضامن مع مواقع (التخندق) الاجتماعي لحرف الحدث عن حقيقته وتشويه الوقائع ونشر الإشاعات المغفلة، وكيل الاتهامات الشائنة بشأن الأخصام السياسيين، عن الكارثة الديستوبيّة في لبنان، التي راح ضحيتها وطن بكامله، وشعب بكامله، وحقيقة قد تبقى في عداد المفقودين ابتلعها بحر بيروت الأزرق وأذابها بملحه، كحال حقائق كثيرة ما زالت في عداد المفقودين.
لبنان يُقتَل والحقيقة في عِداد المفقودين!!
بقلم : ندى حطيط ... 07.08.2020
٭المصدر : القدس العربي