سهل جداً أن تسمع عن سبعة وعشرين مليوناً، أو تسعة وعشرين مليون مصاب بالفيروس، لا فرق، تعبّر عنها بكلمة واحدة: أفّ!
ترتاح لفكرة أن الفيروس لا يشكل خطراً على شريحة الشباب، وتشفق على المسنين وذوي الخلفيات المَرَضية، ولكن يختلف الأمر تماماً عندما يصل الفيروس إلى أحد أبناء أسرتك.
سَهِر أصدقاء العريس بعضهم مع بعض بضع ليالٍ احتفاء بصديقهم، وبعد ليلة من انتهاء الحفل الرئيسي، بدأ ابني بالسّعال، وارتفعت حرارته، وشعر بألم في حلقه، وبضعف عام، وبدا أنه قلق، فقرّر إجراء فحص، في اليوم التالي بشّرني قائلاً: الكورونا حقيقة وليست مؤامرة.
-شو يابا؟
-إيجابي..
-يعني الآن، اقتنعت أنها ليست مؤامرة.
-نعم، ابتعد عني. ودخل غرفته.
إنه يخشى أن ينقل العدوى لي أو لوالدته أو لشقيقه، أو لأسرة شقيقه الآخر، الذي يسكن في الطابق الأول فوقنا، ويقضي صغاره معظم وقتهم عندنا.
في الوقت ذاته، لا أريده بأن يشعر بالغربة بيننا كبعير طرفة بن العبد، فصرت أقرع باب غرفته بين حين وآخر، كي أطمئن عليه، خصوصاً عندما أسمع سعاله الجاف من داخل الغرفة، لأقدم له النصائح.. أكثر من شرب الماء، كيف حرارتك؟ بماذا تشعر؟
-يابا لا تدخل غرفتي، أرجوك، لا تستهتر.
-اخرج إلى الشمس، واشرب عصير البرتقال الذي أعدّته لك والدتك.
كلما اقتربتُ منه انتفض قائلاً: هذه لامبالاة، ستصاب بالفيروس، أقسم أنك سوف تصاب.
قبل أيام كنت أرجوه بأن يحترس، الفيروس يحب الأعراس. ها هو الآن ينصحني، لقد غيّرته التجربة، سبحان الله، لا يتعلم الإنسان إلا من كيسه.
يحاول الحفاظ على مسافة، في طريقه إلى الحمام أو إلى المطبخ أو إلى صحن البيت، وعندما تناوله والدته الطعام أو الملابس، ليس سهلاً أن تعيش داخل بيتك وتتنقل في داخله مع كمامة.
بناء على طلب من طبيب العائلة، ذهبت الأسرة كلها إلى محطة فحص الكورونا، أكثر جملة متداولة بين من جاؤوا لإجراء الفحص «سلبي إن شاء الله». في مساء اليوم نفسه، علمنا أن النتيجة سلبية لدى الجميع، والحمد لله.
يخرج إلى صحن المنزل ليأخذ حمام شمس، ألحق به، فيتذمّر، لا تقترب مني.
أجدها لعبة مسلية معه، أقترب أكثر كي أستفزه، فيرد مستاءً: يابا لا تقترب، لا تقترب، الأمر ليس مزحة، الصداع شديد، وصلت حرارتي إلى ثمانٍ وثلاثين ونصف، وأشعر بضعف شديد، أنا مسافر إلى فندق، مخصّص لمرضى الكورونا.
رنّ هاتفي، ورأيت على الشاشة اسم وزارة الصحة، بعد التأكد أنني رب الأسرة قال المتحدث: أنت وجميع من يسكنون في البيت -ذكرهم واحداً واحداً- في حجر صحي، لمدة اثني عشر يوماً.
قلت: لقد أجرينا فحصاً للجميع والكل «سلبي» الحمد لله..
-حتى ولو، أنتم منذ الآن في حجر صحي.
-لا مشكلة…
إنه يتألم، وسيمكث ابتداء من اليوم اثني عشر يوماً، يجري بعدها فحصاً، فإما أن يتحرّر من الفيروس، أو أن يستمر في العزل، يكتب لي «إنشاء الله». أتردّد، هل ألفت نظره إلى الخطأ؟ لا، ليس وقت تدقيق أخطائه الإملائية.
لي صديقة مضى على إصابتها خمسة وأربعون يوماً، وحتى بعد ظهور الفحص سلبياً، ما زالت تشعر بدوخة وضعف عام، وغير قادرة على الخروج من البيت إلى مكان عملها.
منذ سنوات، عندما أرسل له رسالة على (الواتس)، يرد فوراً، نادراً ما يتأخر، الآن إذا تأخر في الرد، أشعر بقلق، أسأل زوجتي إذا ما أرسلتْ له أو تحدثتْ معه، لماذا لا يرد؟ تأخذني أفكاري، ربما يعاني من ارتفاع في حرارته وأنه ضعيف وعاجز حتى عن الرد، ويتظاهر بالقوة، لا أدري إذا كان كل شيء على ما يرام كما يقول، عادة ما يقصد المريض طمأنة الأسرة، فهو يشعر بالذنب بشكل أو بآخر، وخصوصاً أنني كنت أنبهه طوال الوقت إلى ضرورة الالتزام بالتعليمات.
بعد تأخر بسيط يتصل ليقول: أنتم كيفكم؟ أنا عندي كل شيء تمام الحمد لله، فقط نتفة صداع، ولكن اليوم فقدت حاسة الشم والذوق!
آه، بسيطة حبيبي، هذا ليست مشكلة، أكثر الناس فقدوا حاسة الذوق من زمان. (يضحك) وأفرح عندما أسمع ضحكته.
من معك في الفندق؟
كثيرون من البلد، كل أصحاب العريس، والعريس أيضاً أصيب، لكنه في البيت، وأمه وشقيقتاه معنا، ومعنا شيخان، وحتى أطفال يوجد هنا، وتوجد عائلة مثلنا، من جْديدة-المكر، خالات وشقيقات العروس، التي أعدت الكبّة في عرسهم مصابة.
العزلة أو شبه العزلة، منذ بدء الوباء، ليست سيّئة تماماً، البعض وجدها فرصة للقراءة أو للكتابة، والبعض يطوّر ما يعرفه على آلة موسيقية، والبعض صار ينشر رسومات من إنتاجه، «قِلة الشُّغل تعلّم التطريز».
في الليل أشعر بحنين إلى بحر عكا الذي اعتدت زيارته مرتين في الأسبوع، ولأنه ممنوع الآن، فقد التهب شوقي إليه.
أفكر بالهرب، ولكن أتراجع وأقول لنفسي يجب أن أكون نموذجاً ومثالاً لبقية أفراد الأسرة.
بعد أسبوع فقط من الحَجر، يتلصص الابن الثاني النشط، المعروف بحبه للعمل والحركة، ويهرب مع أحد أصدقائه، أتصل به، لأحثه على العودة فوراً، فيرنّ هاتفه الذي تركه في غرفته، كي لا يعرف أحد مكان وجوده.
أحد الأفكار التي ألحّت عليّ بقوة، كيف قضى ويقضي عشرات آلاف من الناس سنين من حياتهم في السجون والزنازين!
أقرأ خبراً عن شهيد جديد (داوود الخطيب من بيت لحم)، الذي قضى ثمانية عشر عاماً في سجون الاحتلال، أصيب بجلطة قبيل انتهاء محكوميته بشهرين فقط. يا إلهي، ثمانية عشر عاماً! أتأمل صورة الشهيد وأتساءل، من أيـــن للإنسان هذه القدرة على العيش كل هذه السنين في السجن؟! أفكّر بأولئك الذين دفعوا ويدفعون حرّيتهم الشخصية ثمناً لحرّية شعوبهم، الفيروس ينتشر بين سجناء معتقل عوفر، اكتظاظ والطقس نار، لا مكيفات ولا ماء بارد ولا دواء. تبّاً لنا، كم نحن جاحدون، وكم نحن صفيقون ومتبلّدو المشاعر،أمام هذه التضحيات، وما أتفه أولئك الذين يصطفون إلى جانب السّجان، ويرددون كالببغاوات عن معتقل سياسي في أي نظام كان، وفي أي بلد كان، بأنه يستحق السجن.
في بيتنا كورونا…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 10.09.2020