على هامش انضمام الجبهة الديمقراطية إلى حكومة فياض الجديدة : بتنا لا نفهم!!
بقلم : د. أيوب عثمان* ... 23.05.2009
"في ظل ما نعانيه من انقسام نراه آخذاً في التوسع لحصد وتخريب كل ما أنجزناه، ليتنا نشعر بمدى الحاجة الوطنية الكبيرة إلى استدراك الكثير مما صدر عن الجبهة الديمقراطية من أفكار وأقوال وأفعال، وإلى التوقف عن الكثير مما اتخذته من مواقف وطنية وأتت عليه من أفعال". تلكم كلمات كنت قد اختتمت بها مقالاً كتبته تحت عنوان "مرحى للجبهة الديمقراطية على درب الوحدة الوطنية"، ونشر في الثاني والعشرين من فبراير 2008، احتفاء بالذكرى التاسعة والثلاثين لانطلاقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
فبينما ظللت أثق دوماً أن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تؤمن إيماناً يقينياً ثابتاً ومكيناً بضرورة العمل على توحيد الإمكانيات والطاقات الفلسطينية داخل بوتقة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وذلك لإدراكها اليقيني الراسخ بأن بلوغ شعبنا الفلسطيني أهدافه الوطنية الكبرى مرهون، دوماً، بوحدته وتوحيد أهداف نضاله ووسائله وآلياته، ومرهون، أيضاً، بقدرته على إنتاج برنامج سياسي وطني ذي أهداف وآليات عمل واقعية وواضحة في سياق دعم شعبي وزخم جماهيري، فقد جاءت مشاركتها في حكومة فياض الجديدة مفاجأة حرضتني على إعادة التفكير من جديد، راغباً في الانطلاق من الشك نحو اليقين!
لقد كنت أرى أن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كانت تنتهج، دوماً، نهجاً نضالياً قوامه التأني والتأمل، ما مكنها من إنتاج إرث يُعَدُ مدرسة تقدمية في الفكر النضالي الديمقراطي الوحدوي، البعيد عن الغوغائية من جهة، وعن المثالية من جهة أخرى، وعن الانغلاق والعدمية من جهة ثالثة. لقد كنت أرى، دوماً، أن الثورة من أجل التحرر أو التحرير عند الجبهة الديمقراطية لا تعني التحرك الهائج نحو الهدف، انطلاقاً من غوغائية أو عدمية أو مثالية لا تجد لها في الواقع ترجمة أو رسماً، بل هي تحرك ثوريٌ واعٍ ومحسوبٌ لحساب هدف محسوب، ما يفسر توجه الجبهة الديمقراطية، دائماً، نحو طرح شعارات ليس تطبيقها درباً من المحال.
تلك هي الصورة التي كنت أرى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عليها، وهي صورة كنت أثق أن الجبهة الديمقراطية سوف تظل، على الدوام، معنيةً ببذل كل ما يمكنها من محاولات إيجابية، بغية توضيحها وتظهيرها، وتطويرها لتصبح الصورة الأجمل والأكمل التي تسعى الجبهة الديمقراطية أن تكون عليها، غير أن ما جاء من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، يوم الثلاثاء الماضي 19/5/2009، من انضمامها إلى حكومة فياض الجديدة، كان – بحق – مخالفاً لكثير من التوقعات والقراءات، لاسيما تلك المنحازة إلى الجبهة الديمقراطية ونضالها وفكرها. فانضمام الجبهة الديمقراطية إلى هذه الحكومة إنما جاء ليدلل على سيرها في مسار معاكس تماماً لنهجها وطرحها، ومناقض تماماً للمنهجية العقلية الواعية لما يدور حولها. فإذا كان أبو مازن هو ذاته الذي صرح – عند تقديم فياض استقالة حكومته في مارس الماضي بدعوى تمكين الحوار من النجاح – بأنه سيقوم بتكليف حكومة جديدة حال فشل الحوار، وإذا كان الحوار لم يفشل بعد، بدليل الإعلان عن استئنافه في السابع من يوليو القادم، فما المبرر، إذن، لتشكيل هذه الحكومة الجديدة؟! وأما كان ممكناً الانتظار حتى يتبين فشل الحوار من نجاحه، لاسيما وأن موعداً جديداً لاستئناف الحوار قد اتفق عليه، بل وأُعلن عنه؟!
لم أكن أتوقع أحداً يعترض على تشكيل هذه الحكومة قبل الجبهة الديمقراطية، ولم أكن أتوقع أن هناك أحداً يملك المبررات الوطنية القوية لمثل هذا الاعتراض كما الجبهة الديمقراطية، وذلك من خلال سيرتها ومسيرتها ووقفاتها ومواقفها التي تجلت – على سبيل المثال لا الحصر – في موضوع حق العودة، واتفاق مكة، والانقسام، ورفض التواجد الإسرائيلي على معبر رفح الفلسطيني المصري، و...و... وعدم توجهها نحو المغالاة أو المبالغة في صياغة شعارات كبيرة لا تتماشى مع الواقع، ولا يستوعبها الزمن.
وعليه، فإنني أعبر عن شدة حيرتي إلى زعامة الجبهة الديمقراطية التي أقدر نضالها، واحترم قادتها واحتفظ بصداقة عزيزة ومودة خالصة لكثير من رموزها وكوادرها، فأقول متسائلاً: إذا كنتم جميعاً - وعلى اختلاف مسؤولياتكم ومستوياتكم وأماكن تواجدكم وعلى رأسكم الأخ الأمين العام الرفيق/ نايف حواتمة - قد وفقتم غير مرة، وما تزالون تقفون، بكل الوضوح والحزم الشفوي والمكتوب ضد تفاوض السلطة مع العدو الصهيوني، حيث طالبتم هذه السلطة مراراً وتكراراً، وفي مواقف مختلفة ومتعددة ومتنوعة، بوقف كل أشكال التفاوض مع العدو الصهيوني، فكيف بكم اليوم تنضمون إلى حكومة لم تُلقِ بالاً لكم، حيث أصمَّتْ أذانها وغلَّقتْ عيونها عن مطالباتكم الكثيرة، لاسيما تلك المتصلة بالشأن التفاوضي مع المحتل الإسرائيلي وتبعاته ومستلزماته؟! هل تنضمون إلى هذه الحكومة تعبيراً عن رضاكم عن رئيسها أو عمن أصدر التكليف بتشكيلها؟! هل تنضمون إليها بعد أن أخذتم تعهداً بوقف التفاوض العبثي، أم تنضمون إليها لتقدموا لها النصائح وأنتم في داخلها بعد أن رفضت هي نصائحكم وأنتم خارجها؟! أم أنكم تنضمون إليها حيث ترك الكعكة والتهامها أو التهام جزء منها، مع الإبقاء عليها سليمة معافاة، في آن واحد معاً، قد بات في مثل أيامنا هذه أمراً منطقياً؟! بتنا لا نفهم!!!
لقد بتنا لا نفهم ! فبالرغم من أنني أتحدث عن نفسي، إلا أنني أشعر - ولعلي أكون مخطئاً - أن كثيرين كثيرين لديهم إزاء هذا الذي يحدث ما لديّ. أشعر أننا بتنا لا نفهم! أشعر أنه ربما كانت هناك عبرةٌ أو عظةٌ لا نستطيع إدراكها من وراء تشكيل حكومة فياض الجديدة، أو من وراء المشاركة فيها، لاسيما وإن هذه الحكومة الجديدة لا تهدم فقط ما تم إنجازه في موضوع الحوار، معمقةً بذلك القطيعة والانقسام بين أبناء الشعب الواحد، بل وتزيد من تشرذم حركة فتح وانقسامها وتشظيها، وتسيء إلى العلاقة مع مصر بكل تأكيد، إلا إذا كانت هذه الحكومة ليست إلا وصفة أمريكية إسرائيلية رباعية ملزمة!
لقد بتنا لا نفهم! فأي قيمة تراها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين لهذه الحكومة التي رفضتها، بل وتبرأت منها، حركة فتح، من خلال كتلتها النيابية المنتخبة، وقاطعتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فيما رفض حزب الشعب الانضمام إليها والمشاركة فيها، فضلاً عن رفض حركة حماس لها؟!
لقد بتنا لا نفهم! فإذا كانت حركة فتح الكبيرة .. حركة فتح التي هي الحزب الأصيل والعمود الفقري للسلطة ورئيسها، ترفض هذه الحكومة، وتصدر في شأنها إدانات قاسية، لاسيما من كتلتها البرلمانية المنتخبة، فهل تكون الجبهة الديمقراطية بانضمامها إلى هذه الحكومة بديلاً عن حركة فتح، أم معوضاً عن عدم وجودها فيها، أم عاملاً مخففاً للهجمة عليها؟!
لقد بتنا لا نفهم! فهل تريد الجبهة الديمقراطية، بمشاركتها في هذه الحكومة، أن تعبر عن عالي تقديرها لأبي مازن الذي تشاور معها، دون أن يتشاور مع حركته التي يرئسها والتي كانت قد سودته عليها؟! ألا ترى الجبهة الديمقراطية أن رئيساً لا يتشاور مع حزبه أو حركته، بل لا يتشاور - حول تشكيل حكومة وبرنامجها السياسي ورؤيتها الإستراتيجية وخطط عملها - مع كتلة حركته النيابية التي فازت في انتخابات حرة وديمقراطية نزيهة، ليس حريّاً به أن يدعم أو يؤيد؟!
لقد بتنا لا نفهم! فهل نصدق أن الجبهة الديمقراطية - التي جعلت "الديمقراطية" ألصق صفاتها وسماتها المميزة لها - تؤيد رئيساً لا يتشاور مع الحزب الذي جعله رئيساً عليه، ويستعيض عن ذلك بالتشاور مع الأبعدين، من خلال إيغاله في تهميش الأقربين؟!
لقد بتنا لا نفهم! فقد كان عباس هو من قال عند استقالة حكومة فياض السابقة في مارس الماضي أنه سيقوم بتكليف حكومة جديدة حال فشل الحوار، ثم عاد كل من عباس وفياض - وبعد تشكيل الحكومة الجديدة يوم الثلاثاء الماضي 19/5/2009 - ليقول إن هذه الحكومة سوف تقوم بتقديم استقالتها فور نجاح الحوار. وعليه، فهل بات أمر تشكيل الحكومة مرتبطاً بنجاح الحوار أم بفشله؟! وسواء كان الأمر مرتبطاً بالنجاح أو الفشل، فإننا نسأل الجبهة الديمقراطية: أما كان ممكناً الانتظار بضعة أسابيع، وتحديداً حتى السابع من الشهر السابع؟! وما الذي كان سيحدث لو كان الانتظار لأسابيع سبعة، أو حتى لشهور سبعة، لاسيما وأن الانتخابات الرئاسية والتشريعية قد تم التوافق على أجرائها بعد شهور سبعة؟!
لقد بتنا لا نفهم! فكيف يمكن للجبهة الديمقراطية أن تصوغ موقفها من هذه الحكومة، فتأخذ قراراً بالمشاركة فيها، في ذات الوقت الذي تعلم فيه موقف حركة فتح الرافض والمقاطع لهذه الحكومة من خلال رئيس كتلتها البرلمانية، عزام الأحمد، ومن خلال اعتذار بعض أعضائها عن المشاركة، ومن خلال وصف عضو مجلسها الثوري، يحيى رباح، الذي قال بأنها "حكومة لا تختلف عن سابقتها سوى أن عدد الحقائب فيها أكثر، فمن كان يحمل بطيختين في آن واحد، أصبح يحمل بطيخة واحدة، وهو ينوء بحملها، لأن الزمن السياسي الفلسطيني مازال مبعثراً لوجود الانقسام الذي ندعو الله أن تكون نهايته قريبة حتى يمكن القول بعدها إنه توجد في فلسطين حكومة تستحق أن توصف بأنها حكومة، وهي حكومة الوفاق الوطني ... حيث الحكومات الحالية هنا وهناك، حكومات الأمر الواقع ... حكومات وليدة المأزق، ونتاج المأزق ... الذي تجسده حالتنا الراهنة التي لا نموت فيها ولا نحيا".
أما آخر الكلام، فإذا كان الأمين العام للجبهة الديمقراطية، الرفيق المناضل نايف حواتمة، قد انتقد اتفاق مكة فوصفه قائلاً: إنه خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء، فماذا عساه، اليوم، أن يقول في وصف انضمام الجبهة الديمقراطية إلى حكومة فياض الجديدة: أهو خطوة إلى الأمام مع خطوة إلى الوراء؟!
*كاتب وأكاديمي فلسطيني – جامعة الأزهر .. غزة
www.deyaralnagab.com
|