logo
هل هناك صحف عربية مُستقلة أم مُستـَغـَلـَة؟

بقلم :  د. فيصل القاسم  ... 20.10.08

في محاولة مفضوحة للتحايل على حرية التعبير والإعلام، وللظهور بمظهر المساير للانفتاح الإعلامي العالمي والعولمة، راح الكثير من الدول العربية يعطي "تراخيص" لبعض الصحف والمجلات الورقية والالكترونية "الخاصة"، بين قوسين طبعاً. وفعلاً ظهر رهط من الصحف والمجلات التي تدّعي الاستقلالية وحرية الرأي، على اعتبار أنها ممولة من جيوب أصحابها، وليس من ميزانيات وزارات الإعلام العربية، وبالتالي فهي حرة فيما تنشر. لكن السؤال المطروح هل يمكن أن يكون لدينا صحف حرة ومستقلة فعلاً في غياب نظام ديموقراطي عام يسمح بالحريات الديموقراطية المطلوبة كحرية التعبير، ويفصل بين السلطات؟ ألا تبقى الصحف التي تزعم الاستقلالية تحت رحمة الذين منحوها التراخيص؟ كم من الصحف والمجلات التي ظهرت ثم اختفت في ليلة ليلاء، لا لشيء إلا لأنها ربما حادت قيد شعرة عما هو مطلوب منها؟
لا يخفى على أحد أن الكثير من وسائل الإعلام العربية التي ظهرت منذ أكثر من حوالي عقدين من الزمن تحت شعارات الاستقلالية كانت مجرد أذرع للحكومات العربية. ولا داعي للحديث عن التحالف الاستراتيجي بين الأنظمة العربية وأصحاب المشاريع الإعلامية العربية من صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات. ناهيك عن أن الكثير من المشاريع الإعلامية التي تدّعي الخصوصية مملوكة لأقارب أو المرتبطين بالطبقات الحاكمة حسباً ونسباً ومصلحة. وبالتالي لا يمكن أن تكون تلك الوسائل مستقلة، أو تعبر عن مشاريع وطنية عامة، بل هي مجرد واجهات لنفس القوى التي تتحكم بالإعلام الرسمي، لكن بأثواب مختلفة للضحك على الذقون وذر الرماد في العيون. وينطبق هذا الكلام على الصحف العربية الصادرة في الداخل والخارج على حد سواء.
إن معظم أصحاب الصحف العربية "المُستغـَلة" يمضون ثلاثة أرباع أوقاتهم في مكاتب أجهزة الأمن العربية، وليس في مكاتب صحفهم، لا لشيء إلا لأن تلك الصحف ومالكيها هم صناعة أمنية عربية بامتياز، ولا يملكون من أمرهم شيئاً، إلا ما ندر، كي لا تزعل بعض الصحف العربية شبه المستقلة. ناهيك عن أن الممسكين بخناق الإعلام في الداخل هم أنفسهم أصحاب بعض الصحف العربية "المُستغـَلة" الصادرة في الخارج.
عندما تظهر صحف عربية تدّعي الاستقلالية يجب على القارئ أن يضع ألف خط وخط تحت كلمة "مستقلة". فلماذا تـُمنح التراخيص لهذه الصحيفة ومالكها دون غيره، بينما يكون عدد المتقدمين للحصول على ترخيص بالمئات؟ الجواب بسيط جداً، لأنه أقدر على الوفاء بمتطلبات ومستلزمات مانحي الرخصة. كيف لا ووسائل الإعلام العربية تخضع للأجهزة الأمنية لا للسلطات الإعلامية كوزارات الإعلام والمجالس العليا للإعلام المزعومة. ولا ننس أن المغرب كان أكثر الدول العربية صراحة في الإفصاح عن تلك الحقيقة المرة، فوزير الداخلية المغربي الراحل إدريس البصري ظل لفترة طويلة وزير الداخلية والإعلام في البلاد في آن معاً، لا بل إن الوزارتين كانتا مدمجتين تحت وزارة واحدة وسقف واحد. ووجود وزارات إعلام عربية مستقلة عن وزارات الداخلية لا يعني بأي حال من الأحوال أن وزارات الإعلام مستقلة، فهي مجرد واجهات أمنية بامتياز.
وكي نكون أمينين فإن هناك علاقات قوية للغاية بين معظم الصحف الأمريكية "المستقلة" وأجهزة الأمن الأمريكية، لا بل إن كبار الكتاب الأمريكيين يتفاخرون بعلاقاتهم الوطيدة والوثيقة بالشخصيات الأمنية والسياسية الأمريكية. فأجهزة الأمن مصدر ممتاز للمعلومات الصحفية. وكلا الجانبين الأمني والصحفي يحتاجان لبعضهما البعض، فالصحفي يريد أن يحقق سبقاً صحفياً لا يوفره أحياناً سوى أجهزة الأمن، ورجل الأمن بحاجة للصحفي كي يسوّق له مشاريعه وخططه تحت يافطة إعلامية. لكن لابد من التمييز بين العلاقة بين الصحفيين الغربيين والصحفيين العرب في علاقاتهم مع الأجهزة الأمنية، فبينما هناك علاقة نفعية متبادلة بين الصحفي الغربي ورجل الأمن الغربي، فإن الصحفي العربي "المستقل" أو بالأحرى "المُستغـَل" هو مجرد أجير عند رجل الأمن والسلطات عموماً، لا لشيء إلا لأن المؤسسة الإعلامية أو ما يسمونه بـ"السلطة الرابعة" في الغرب ليست في البلاد العربية سلطة بأية حال من الأحوال، بل مجرد "سَلــََطة"، أي وجبة سهلة الالتهام والهضم. بعبارة أخرى فإنه، في الوقت الذي يتمتع فيه الصحفي الغربي بحماية نقابته والسلطة الرابعة الحقيقية، فإن الصحفي العربي الذي يدّعي الاستقلالية لاسند له سوى رجل الأمن الذي أعطاه الترخيص في المقام الأول. وفي اللحظة التي يسحب فيها رجل الأمن الغطاء عن أية صحيفة تدّعي الاستقلالية، فإنها تغلق أبوابها في اليوم التالي، هذا إذا لم يُزج بصحفييها "المُستغـَلين" في غياهب السجون.
كم كنت أضحك عندما أرى صحيفة تقول عن نفسها إنها مستقلة وقد كانت تتصدر غلافها يومياً صورة كبيرة بالألوان للزعيم الضرورة، مما يجعلها تزايد أحياناً على الصحف الرسمية في توددها وتملقها للنظام الحاكم.
وأعتقد أن الحكومات العربية تفهم بعضها البعض جيداً. فعندما تقوم صحيفة عربية "مُستغـَلة" بشن حملة على بلد عربي آخر، عندها يعرف ذلك البلد الآخر أن الصحيفة لا تعبر عن وجهة نظر خاصة بها أبداً كما تدّعي، بل هي مجرد بوق للسلطات الحاكمة. إنه مجرد تغيير سمج ومفضوح في قوانين اللعبة لا أكثر ولا أقل، ولاعلاقة له أبداً بحرية التعبير أو الانفتاح أو التنوع الإعلامي.
لقد هرشت السلطات العربية رأسها، ثم صاحت: "وجدتها، وجدتها، لماذا لا نسمح بإصدار صحف خاصة، ومن ثم نقول فيها، نحن دون غيرنا، كل ما لا نستطيع قوله في صحفنا الرسمية؟"


www.deyaralnagab.com