عدم ثقة !!
بقلم : د. فايز أبو شمالة ... 26.05.2009
همس في أذني السجين "عزام مغاري": أنت ضمن كشف المفرج عنهم من السجن، مجرد أن يوقع "أبو عمار" على اتفاقية القاهرة هذا اليوم 4 ـ 5 ـ 1994، ولكن عندما بدأ مكبر الصوت داخل السجن في قراءة أسماء المفرج عنهم، ويطالبهم بالنزول من أقسام سجن غزة إلى أسفل حتى علت دقات قلبي، وأطبق الصمت الرهيب على كل السجناء، شخصياً لم أثق بما قاله لي السجين "عزام" رغم أنه كان يعمل في مطبخ السجن، ولاحت منه التفاته على الكشف في يد مدير السجن، وقرأ اسمي كما قال، ومع ذلك لم اطمئن، وظللت واجماً أرقب حرف الفاء الذي سبقته حروفٌ كثيرةٌ، انتظر أصحابها الحكم القاضي بالمبيت هذه الليلة مع الأهل، أو لمبيت هذه الليلة في السجون الإسرائيلية، وما أبعد المسافة بين المبيتين!.
لم احزم أغراضي القليلة إلا بعد أن قرأ السجان اسمي، فلم أكن أصدق أنني سأنام هذه الليلة في بيتي! إذ كيف سأنتقل بهذا البساطة من الجلوس على بلاط باحة السجن إلى سرير البيت؟ كيف سأثق؟ ألم أكن ارتدي حلتي، وربطة عنقي، وأركب سيارتي حتى المساء قبل حوالي عشر سنوات عندما داهم بيتي الجيش الإسرائيلي، وقيدني بالسلاسل، لأجد نفسي ملقى على البلاط في غرفة التحقيق؟ ومع ذلك نزلت مهرولاً إلى مكان تجمع السجناء المفرج عنهم، وجلست صامتاً كمن سبقني، ننتظر إجراءات مغادرة السجن البطيئة، والمريبة، ولاسيما أن الوقت قد طال، واقترب المساء، وزاد شكي عندما أحضر لنا السجان طعام العشاء، فقمت من مكاني وذهبت حيث الطعام، فقال لي سجين: بعد قليل ستكون في البيت، وربما أعد إليك الأهل عشاءً فاخراً، فقلت له: هل تضمن لي عدم تراجع اليهود عن الإفراج عنا في آخر لحظة؟ أنا لا أثق رغم ما أرى، ولن أصدق ما يجري أمامي حتى أغادر هذه الأسوار.
أكملت إجراءات مغادرة السجن، وخرجت من البوابة في حالة من الذهول، يصافحني مئات الناس دون وعي بمن أصافح، أو بمن يقبلني، ولا أعرف إلى أين أسير، وكل ما أتمناه أن ابتعد عن هذا المكان كي لا ينقضَّ عليَّ السجانُ ثانية، ويعيدني إلى السجن. ولم يهجرني الشك وأنا أركب سيارة الأونروا مع أخي، وأطبق الباب في طريق العودة من غزة إلى خان يونس، لقد اختلست نظرة إلى الخلف، وأنا استحث السيارة على الانطلاق، والخوف أن تلحقني سيارة الجيش الإسرائيلي، وتعيدني ثانية إلى عتمة السجن، وحتى هذه اللحظة فإنني لا أطمئن لبعدي عن السجون الإسرائيلية، فما زلت لا أثق بحرية الفرد التي تسجن كل المجتمع، ولا أثق بإشباع حاجة النخبة التي تجوّع كل الناس، ولا أصدق معنى سلامة الصفوة لتموت العامة، ولا أثق بأيديولوجية ليس في الإمكان أبدع مما كان.
www.deyaralnagab.com
|