logo
المُتسللون!!

بقلم : رشاد أبو شاور ... 08.07.2009

اعتادت الأمم والشعوب التي تعتز بأمجادها ومآثرها أن تقيم نُصبا لمقاتليها المجهولين، الذين لا يعرفهم الناس، والذين بفضلهم ترفرف رايات الأوطان، وتنعم الأجيال بالحُريّة.
لكن المُتسللين الفلسطينيين لم يُنصفوا ولو بكلمة طيّبة، فقد طواهم النسيان، وكأنهم لم يبذلوا دماءهم، ويضحوا بشبابهم، لإنقاذ أسرهم من الجوع والبرد والعُري المُحرج، ناهيك عن إقلاقهم لطمأنينة (دولة) العصابات وهي في بداية تكونها!
في كل عاصمة من عواصم العالم يشمخ نُصب مهيب للجندي المجهول، إلاّ عندنا نحن الفلسطينيين، اللهم باستثناء غزّة حيث كان هناك نصب للجندي الفلسطيني المجهول، والذي سمعت أنه نُسف، على اعتبار أنه رجس من عمل الشيطان..أهذا صحيح يا أهالي غزّة، أم تُراها دعاية لتشويه سمعة جهة ما؟ آمل من كُل قلبي أن لا يكون الأمر صحيحا.
قلائل هم الذين يتذكرون المتسللين، مع انهم كانوا طلائع الفدائيين، والمقاومة العفويّة، فهم لم ينتموا لتنظيم، أو حزب، ولم تدعمهم جهة عربيّة رسميّة.. وهل من انهزمت جيوشهم في الميادين، وانسحبت تجر أذيال الخيبة، يمكن أن يدعموا أصحاب الأرض، أبناء فلسطين، ويشجعوهم على خوض حرب مختلفة عن حرب تلك الجيوش، لم يألفها العدو، ولا توقعها؟!
هؤلاء المتسللون اكتسبوا صفتهم هذه من أسلوب (عودتهم) إلى قراهم وبلداتهم بعد نكبة الـ48.
لم يخنع أولئك المتسللون بعد تشرّدهم عن قراهم ـ وهم غالبا قرويون فلاّحون ـ فلم يُقرّوا بانتصار العصابات الصهيونيّة، وإقامة الكيان الصهيوني، فبدأوا بالتسلل إلى قراهم متدثرين بالليل وحفظ الدروب المرسومة في القلوب، إلى قرى الخليل، والقدس، ومن بعد من قطاع غزّة عبر المنطقة التي تعزلها عن الضفّة الفلسطينيّة، وصولاً إلى قرى الخليل غير المحتلّة في ما بات يعرف بعد النكبة بالضفّة الغربيّة.
من لبنان تسللت أُسر كثيرة وعادت إلى قراها في الجليل، بعد اكتشافها أن الهجرة ستطول، وما زال بعضها حتى يومنا هذا (لاجئا) في وطنه، قرب قريته، أو مدينته!
لمّا رحّل أولئك الرجال أسرهم، وبقوا هم في القرى يدافعون عنها بما توفّر لهم من بنادق متواضعة، لم يخطر ببالهم أنهم سيضطرون للحاق بأسرهم، تاركين بعض اخوتهم شهداء في الثرى العزيز. ورغم إبرام اتفاقية (رودس) عام 49 مع ذلك الكيان، وعمليا الاعتراف به، وإسكات المدافع، وسحب الجيوش، فإنهم تسللوا عبر الحدود الوهميّة التي رسمتها هزيمة الجيوش العربيّة، ومؤامرة بريطانيا، ومذابح العصابات الصهيونيّة.
في البداية أخذوا يتسللون لجلب بعض حوائجهم، من أفرشة وملابس وحبوب، وما تركوا من قرش أبيض ادخروه لليوم الأسود الذي دهمهم.
لمّا تنبه المُحتلون لحركة المُتسللين، لغّموا الطرقات التي يسلكونها، فتمزقت أجساد كثيرة، بقيت متناثرة على تلك الطرقات، لتأكلها الوحوش والطيور الجارحة.
تعلم المتسللون الحذر، فأخذوا يتجنبون الطرق الملغمة، وإمعانا في الحرص، يدفعون بجمالهم وحميرهم وأبقارهم أمامهم وقد حُملت بما تستطيع حمله.
ولمّا أخذت العصابات التي صارت لها دولة تكمن لهم وتباغتهم، حملوا بنادقهم، وما توفّر من رشاشات ( الستن) ـ وهو رشّاش صغير، سريع الطلقات، إنكليزي الصنع ـ واشتبكوا مع أعدائهم المتربصين بهم، وأوقعوا بهم الخسائر، وبلغت بهم الجرأة أنهم هاجموا كثيرا من المستوطنات وباغتوها من حيث لا تحتسب، وأشاعوا الذعر في سُكانها الذين اطمأنوا إلى هزيمة العرب أجمعين، بما فيهم الفلسطينيّون!
من هؤلاء الذين تسللوا ولم يعودوا عمّي عثمان، الذي زارنا في مخيّم الدهيشة قرب بيت لحم، والذي بقي عندنا ثلاثة أيّام، إلى ان اتفق مع آخرين على (التسلل) إلى قريتنا.
أذكره: أسمر، مربوع القامة، على رأسه كوفيّة (حطّة) وعقال، يرتدي قمبازا وجاكتة بنيّة مخططة، صامت، يتأمل وجوهنا نحن الصغار، ويهز رأسه بين الفينة والفينة، ويضرب كفّا بكف، ثمّ يحكي لنا حكاية (الشاطر حسن) الذي خطف (الغول) حبيبته، ولكنه ظلّ يكافح إلى أن تمكن من اقتحام القصر الذي حبسها فيه الغول، وأنقذها بشطارته، و..قتل الغول، رغم صغر سنّه وحجمه، ورغم ضخامة حجم الغول، وأنيابه ومخالبه الرهيبة.
من الذين تسللوا ولم يعودوا خالد ابن عمّي، وكان في العشرين آنذاك، وأمّه التي ماتت قبل سنوات قليلة ظلّت تنتظر عودته، ولم يجرؤ أحد على أن يطرح على سمعها إمكانيّة موته بعد كل سنوات الغياب.
أمّا العم عبد القادر فقد انفجر لغم بجمله، فحمد الله على سلامته، وردد مع أحبته: بالمال ولا بالعيال، ويا روح ما بعدك روح، ولكنه لم يتب عن التسلل إلاّ بعد أن صار التسلل تهمة، ومطاردةً، وزجّا في السجن.
في غزّة، ومن هؤلاء الروّاد أسس مصطفى حافظ الحاكم المصري في القطاع كتائب الفدائيين التي دوخت الصهاينة في العام 55، وبتوجيهات من القائد جمال عبد الناصر، ردّا على الهجمات والمذابح الإجراميّة التي قامت بها وحدات عسكريّة صهيونيّة على مدن القطاع.
المُتسللون أولئك بثّوا الذعر في المستوطنات الصهيونيّة، وهم يهاجمونها ليلاً، وأحالوا احياء سكانها جحيما، وهم لو وجدوا من يدعمهم، ويحمي ظهورهم، لكانوا طليعة مقاومة شعبيّة عادلة لا يمكن هزيمتها، ولاستقطبوا الألوف من الفلسطينيين والعرب، ولما تمكن الكيان الصهيوني من التوسّع وبناء جيشه القوي، ولارتفعت أصوات كثيرة تنحاز للفلسطينيين الذين كان قد صدر القرار 194 بحقّهم في العودة، ولوضع مصير دولة العصابات في مهب الريح، ولما صمدت حتى يومنا هذا .
في تلك الفترة المبكرة، وصف الكيان الصهيوني (المتسللين) بالمخربين.. يُخربون ماذا؟! هذه التهمة المشرّفة تعني لكل فلسطيني أنه يُخرّب الكيان الصهيوني الذي خرّب حياة الفلسطينيين، فسرق أرضهم، وبيوتهم، ومدنهم، مدعوما من أعتى دول الغرب وإمبراطورياته، وتحديدا بريطانيا التي كانت مُنتدبة على فلسطين، فمهدت بكل الوسائل الإجراميّة لتمكين الصهاينة من فرض كيانهم بالقوّة وبالمذابح.
من يتأمّل دور المتسللين الأوائل، وما فعلوه، وما كان يمكن أن يفعلوه لو أتيح لهم أن يطوّروا مقاومتهم، يعرف كيف أن الأوضاع الرسميّة العربيّة بتكبيلها الشعب الفلسطيني، منحت الكيان الصهيوني الفرصة للتمكّن، والاستقواء، ومن بعد احتلال المزيد من الأرض العربيّة، والتمادي إلى حد التهديد برسم مصائر بعض الدول العربيّة.
هذا الكيان الصهيوني هو (الدولة) الوحيدة في الأمم المتحدة التي مُنحت العضويّة بشرط نشوء دولة فلسطين، ولذا فعضويته مشروطة ومعلّقة، وغير ثابتة، ولكن من وقعوا معه اتفاقات: كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة.. هم الذين منحوه (شرعية)، وطبعوا معه، ومكنوه من التعامل معهم بالقطعة.
المتسلل الذي استشهد وهو يقتحم الحدود الوهميّة، وامتداده الفدائي المقاوم، هما اللذان يهزّان الكيان ناقص الاعتراف به في هيئة الأمم، وغير الشرعي أبدا، والمطروح على أجندة كل عربي شريف مخلص لأمته، ووطنه الصغير والكبير، كيانا طارئا، لا بدّ من اجتثاثه، لأنه خطر على الأمّة كلها، دولاً، وشعوبا، أفرادا وجماعات، مشرقا، ومغربا...
لو أن المتسللين دُعموا، وأتيح لهم أن ينتقلوا من مرحلة التسلل إلى حالة المقاومة المُنظمة مباشرة بعد انسحاب الجيوش العربيّة المهزومة في ميادين القتال، لما بقي هذا الكيان اللقيط الذي انغرس خنجرا في قلب وطننا العربي، لو..!


www.deyaralnagab.com