الانتخابات ... أو تكريس الحكم الذاتي !!
بقلم : د.خالد الحروب ... 15.07.2009
الخطر الحقيقي في فكرة "بناء المؤسسات والكيان" سواء في الضفة الغربية أم في قطاع غزة يكمن في هذا السؤال: ما هي الخطوة التالية وما هو السقف الزمني؟ من دون وضوح لهذين العنصرين فنحن أمام حالة واقعية من الحكم الذاتي. وما يتكرس الآن في الضفة الغربية وقطاع غزة بوعي أم بدونه هو عملياً شكل من أشكال الحكم الذاتي الذي طُرح على الفلسطينيين خلال مفاوضات كامب ديفيد في أواخر السبعينيات. ديمومة هذا الشكل أو انتهاؤه مرتبط بالإجابة على السؤالين: الخطوة التالية, والسقف الزمني. جوهر الحكم الذاتي هو الإدارة المدنية للسكان من دون التمتع بسيادة حقيقية على الأرض. فلسطينيا كان ذلك وما زال يعني إنهاء الحقوق الفلسطينية حتى بحدودها الدنيا, ودفن حق تقرير المصير وتحرير الأرض من المحتل. وفي الواقع فإن ما نشهده الآن صيغة أسوأ من الحكم الذاتي لأن "العبقرية الفلسطينية" أضافت إليه الانقسام الجغرافي والسياسي الذي لم يخطر على بال مخططي الإستراتيجية الإسرائيلية آنذاك. لا تقبل فتح أو حماس مشروع الحكم الذاتي وترفضان بشدة, كل على حدة, التوصيف الموضوعي (البارد) لـ "الكيانين" القائمين الآن على أنهما تمظهرات عملية لذلك المشروع. ومن المفهوم أن تتوتر أعصاب من يدافع عن أي من الحالتين القائمتين عند استدعاء "الحكم الذاتي" كإطار تحليلي لما هو قائم, ذاك أن أحد ارتكازات النضال الفلسطيني بعيد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل قام على شعار "لا للحكم الذاتي". وليس المقصود هنا عبر استخدام منظور الحكم الذاتي الانجرار إلى جدل سجالي واتهامي, بل التأمل في الواقعة السياسية الفلسطينية المريرة ومحاولة استكشاف طرق الانفكاك منها. ومن مرارات تلك الواقعة أن الحقيقة البشعة على الأرض تشير إلى أن ما يتجسد في خضم التنافس الفصائلي المرير والدموي لا علاقة له بما يُسعى إليه أو يُحلم به. وما يكرره الجميع من حديث عن تقديمه مصلحة الوطن على مصلحة التنظيم, لا يتعدى الادعاءات والمناورات لأن أبسط البسطاء يدرك أن ما عزز الانقسام هو التمترس "الانتحاري" وراء مصلحة التنظيم أولا وآخراً.
هناك آليات سياسية تشتغل في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة على إنتاج الحكم الذاتي بشكل غير مباشر: "بناء مؤسسات الكيان", القبول العملي (رغم الرفض اللفظي) بالأسقف السياسية الواطئة, مع نشر "غطاء جوي" شعاراتي من التمسك بالأساسيات والحقوق التي لا يمكن لغالبية الشعب الفلسطيني أن تقبل بالمساومة عليها, والحشد الإقليمي وإقامة تحالفات امتدادتها تعقّد العودة إلى الوحدة الحقيقية. في الجغرافيتين الفلسطينيتين تنشأ كيانات الحكم الذاتي بالتوازي مع المفاوضات المستمرة (والعقيمة لحد الآن بشكلها الراهن) كإستراتيجية يتيمة في حالة الضفة الغربية, وإستراتيجية المقاومة (العقيمة هي الأخرى بأشكالها الراهنة) في حالة قطاع غزة. معنى ذلك أن الوعود التفاوضية, في الحالة الضفاوية, تشتغل على مستوى, فيما يُصاغ الواقع على مستوى آخر, يشل القدرة على المناورة لتبني أية إستراتيجية غير المفاوضات التي لا تنتهي. وبلغة أخرى, فإن الآلية التي تتم بها بناء المؤسسات الكيانية, في الضفة والقطاع, ومن ناحية عملية بحتة, تقطع الطريق على قدرة الفلسطينيين على المناورة وتغيير الإستراتيجية. ليس هذا معناه بطبيعة الحال عدم تشجيع بل وتقدير جوانب كثيرة من المأسسة والتنظيم ودحر الفوضى التي ابتلعت الشعب الفلسطيني وفرغت قواه وجهوده الذاتية. ففي نهاية المطاف لا يمكن ترك الفوضى وانعدام الأمن الفردي للفلسطيني يسيطران على الشارع تحت مسوغ المقاومة, التي قاومت بعضها البعض خلال الانتفاضة الثانية أكثر مما قاومت الاحتلال. لكن المقصود هنا هو تأكيد ضرورة الانخراط في "بناء الكيانات" لكن بطريقة لا تنهي عملياً الإستراتيجيات الأخرى بما فيها المقاومة المدنية والسلمية, أو إطفاء فتيل المقاومة عند الأجيال الجديدة, أو عبر توسعة ما يمكن أن يقع تحت رحمة الوحشية الإسرائيلية في حال تغير أي ظرف وقررت إسرائيل ضرب كل البنى التحتية, بما يجعل الحفاظ على هذه البنى هدفا يقلل من القدرة على المناورة.
ليس هناك استسهال لاجتراح إستراتيجية تضمن بناء المؤسسات والإبقاء على الخيارات الأخرى مفتوحة, فهي بالتأكيد تحدٍ كبير وتحتاج إلى جهود تنظيرية وعملية فائقة. تلك صعوبة قائمة حتى في حال وجود وحدة حال بين الضفة وغزة, ناهيك عن وجود الانقسام. لهذا فإن الانقسام الراهن يعقّد بروز مثل هذه الإستراتيجية أكثر وأكثر, ويكرس حال الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة كل على انفصال. وإذا نظرنا بهدوء وتمعن إلى سنتي ما بعد الانقسام فإن المظهر الإجمالي القائم في الحالتين هو ترسيخ الكيانية والمؤسساتية, المستندة على تغول أجهزة الأمن وسيطرتها ... أي بناء كيانات بوليسية غير ديموقراطية. لنا أن نتخيل فكرة الحكم الذاتي في صيغتها الأولى مشتملة على وحدة جغرافية وأرضية بين الضفة والقطاع, لكن من دون "الخبرة البوليسية والقمعية المتبادلة" التي نشهدها الآن.
بالعودة إلى السؤال الافتتاحي في هذه السطور: ما هي الخطوة التالية, وما هو السقف الزمني للمشروعين المنقسمين في الضفة والقطاع, لجهة ترسخ الكيانية الانفصالية, علينا أن نضيف سؤالين متفرعين. الأول بشأن قطاع غزة وحماس, وهنا يكون التساؤل ما هي الخطوة التالية لـ "مشروع المقاومة", خاصة بعد الحرب الأخيرة؟ هل ستُستأنف عمليات إطلاق الصواريخ أو ربما عمليات التفجيرات بعد "الانتهاء" من البناء الداخلي, وبعد الانتهاء من إعمار غزة؟ ماذا ستفعل إسرائيل وماذا سيكون ردها, وماذا سيكون مصير كل ذلك البناء والإعمار؟ وفي حال استمرار التهدئة وإبطال المقاومة بأشكالها الحماسية المعروفة, والتركيز على الخدمات والبناء, أليس هذا معناه الوقوع في شرك الحكم الذاتي اللاسيادي؟ وما هي خطوات حماس التالية, وما هو السقف الزمني لما تقوم به؟
أما التساؤل الخاص بالضفة الغربية, وفتح, ومشروع بناء مؤسسات الدولة فهو أيضا متعلق بالخطوة التالية والسقف الزمني: إلى متى, وكيف, وما هي الخطوة التالية والإستراتيجية البديلة, التي تتفادى الوقوع في شرك الحكم الذاتي. كل البيض الفلسطيني مصفوف الآن في سلة أوباما ومدى جديته وقدرته على إحداث تغيير. السؤال الذي يجب أن يقلق فتح والرئيس الفلسطيني هو ماذا لو انقضت سنوات أوباما من دون حدوث أي اختراق؟ لنفرض أن سنواته الثلاث والنصف القادمة مرت وبقي الوضع القائم كما هو, ما هي الإستراتيجية البديلة؟
كل ما سبق يتعاظم تكرسه في ظل الانقسام. فآلية الانقسام تعمل على تعميق الحكم الذاتي التنافسي, لأن كل كيان يعمل بجد ونشاط كي يثبت أنه الأفضل إداريا وحكوميا من الآخر, والجامع المشترك الوحيد أن كلاهما ما زال واقعا تحت الاحتلال. الانتخابات المقررة في شهر يناير القادم تلوح بكونها الفرصة شبه الأخيرة, إن لم تكن الأخيرة, في "بداية" إنهاء الانقسام وإعادة الوحدة الجغرافية والسياسية (تحت الاحتلال). من دون تحقيق تلك الوحدة لا يمكن الوصول إلى أية إستراتيجيات جديدة وخلاقة تنفك من إستراتيجيات "الخيار اليتيم" هنا وهناك, وسنبقى في دوامة الحكم الذاتي.
www.deyaralnagab.com
|