المقاومة في فلسطين هي البقاء وعدم الهجرة!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 29.07.2009
يهاجر الشباب من فلسطين بنسب مرعبة. آخر الاستطلاعات تشير إلى أنه ما بين أيار 2008 إلى أيار 2009 هاجر من الضفة الغربية وحدها ما يزيد على 42 ألف شاب من حملة الشهادات الجامعية. الرغبة بالهجرة عارمة وكاسحة. في قطاع غزة ولو كانت المعابر مفتوحة إلى الخارج بحرية لرأينا نفس العدد على أقل تقدير إن لم يكن أكثر بكثير وخلال نفس الفترة الزمنية. أخبرني صديق يدير أحد مراكز الأبحاث في رام الله أن أحد الاستطلاعات التي أجراها أشار إلى ما نسبته 2 % فقط من بعض الشرائح الشبابية ترغب في البقاء في فلسطين, وأن النتيجة أذهلته. ورغم دقة المنهجية المتبعة قرر أن لا ينشر هذه النتيجة تفادياً لما قد تثيره من إحباط وطني واجتماعي عام. استسمحه العذر هنا في نشر هذه النتيجة حتى تلطمنا جميعا وعلها تُساهم في دفع التفكير بالاتجاه الصحيح: اتجاه إبقاء الناس في فلسطين واعتبار هذا الهدف هو الإستراتيجية العملية الأهم في الوقت الحاضر, والمعنى الحقيقي لـ "المقاومة". أسباب الهجرة بحسب الدراسات المختلفة تتنوع لكن أهمها الضغوط الاقتصادية والبطالة والبحث عن عمل في الخارج, ثم الضغوط السياسية والاحتلالية, وتليها الرغبة في استكمال الدراسات العليا. طلبات الهجرة للخارج في القنصليات والسفارات الأجنبية تتجاوز عشرات الآلاف. معظم الشباب الذين يقابلهم المرء هنا سرعان ما يسألون عن أية فرصة أوآلية يتمكنون عبرها من السفرإلىالخارج. الإحباط السياسي الناتج عن الصراعات الفصائلية والانقسام الحاد يدفع بالإحباطات الإقتصادية إلى حدودها القصوى ويعظم من الرغبة بالهجرة. الردود والتعليقات على أخبار الهجرة على المواقع الإلكترونية الفلسطينية تقدم غمسة مرارة لما تشعر به الشريحة الشبابية. يقول أحد تلك الردود: "بتقولوا ليش الشباب بتفكر بالهجرة؟ شو قصتهم الناس المتابعين هالأمر؟ مش عارفين ليش الشباب بتفكر بالهجرة؟ من القرف اللي بفلسطين من حماس وفتح وباقي الطابور, قرفونا بلدنا, وقرفونا حالنا. إيش بدنا نسوي؟ نموت يعني تحت إجريهم حتى نصير كويسين؟ ... أصبروا شوي حتلاقوا الفئران بدها تهاجر من كثر ما قرفت. وحدوا الله وسيبكم من الشباب في همهم, والله ينتقم من اللي كان السبب وأنتو عارفينهم". وهناك أيضا تعليق مرير من قطاع غزة يقول: "هي حماس خلت شي في غزة غير الدمار؟ شحادة وتسول وجوع وحصار ونظام عسكري دكتاتوري, سيبونا. والله لو فتحت المعابر ما تلاقوا شاب ظل في غزة, وغير تصفي للعجزة والنسوان والبنات. الشباب قرفانة وحالها مترملة". نريد أن نسمع من فتح وحماس رأيهما في هذه القضية؟ ألا تستحق كارثة الهجرة المتواصلة للشرائح الشبابية أن تكون بندا على جدول الحوار الفصائلي العقيم والدائر حول من يكسب ماذا وكيف, فيما تضيع الأرض يوميا بالاستيطان, ويندثر الشعب بالهجرة؟
ما نراه حاليا من رغبات عارمة بالهجرة هو خلاصة السنوات الطويلة الماضية من السياسات والإستراتيجيات الفلسطينية التي فشلت في بناء ظروف تثبت الشرائح الأعم في أرضها. علينا الإقرار بأن المسار الأوسلوي (بغموضه وزبائنيته ونحره لأية مؤسساتية) والمسارالمقاومي (بفوضاه العسكرية والانتحارية تحديدا, وغموض خياراته) أقاما تحالفاً موضوعيا على الأرض خلق ظروفاً تصاعدية قادت إلىالإختناق الحالي. تصارع المساران المذكوران ضد بعضهما البعض خلال السنوات العشرين الماضية, بعنف ودموية أحياناً, وكانت النتيجة أن الميدان الذي تصارعا عليه, أي الشعب والأرض, كان الخاسر الأكبر. أيام الحرب الباردة انتشرت مقولة عالمثالثية كانت تقول: عندما يتصارع فيلان ضخمان (أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) فإن العشب تحتهما هو الذي يعاني ويدفع الثمن. صراع المسارين الفلسطينيين, متجسدا بصراع فتح وحماس, أدمى الشعب والأرض الفلسطينية.
والمفارقة التي تزيد من شدة اللطمة الناتجة عن واقع الهجرة الفلسطينية مرتبطة بشعار حق العودة. وهنا فإن السؤال المرير يقول إذا كانت الناس تهاجر طوعاً وهربا من سوء الأوضاع, فكيف نطالب بحق العودة, وإلى أين يعود الناس, ولماذا يعودون؟ هناك فرق كبير بين رومانسية حلم العودة, والتغني بالبساتين, والقرية, وأشجار الزيتون والبرتقال, وما هو قائم على أرض الواقع. كل من يمسك بحق العودة بقوة, خاصة فتح وحماس, عليه أن يخلق الظروف التي لا تدفع بالشباب إلى الهجرة على أقل تقدير. سيقول قائل هنا إن في هذه المقاربة تساذجاً واضحاً إذ كيف يتم افتراض حدوث العودة, أو أي عودة, في ظل ظروف كالظروف القائمة. ألن تحدث تلك العودة الافتراضية في سياق حل أو حلول أشمل مترافقة مع تغير للظروف الصعبة القائمة الآن والمتسببة في هجرة الشباب, سواء أكانت ظروفا اقتصادية أم سياسية؟ والجواب على ذلك أننا كلنا نأمل أن يكون ذلك هو المآل, لكن من منا يضمن أننا نسير نحو الأفضل في أي شيء؟ وعلى أي أساس يمكن أن نفترض السيناريو الأفضل؟
ندرك جميعا أن الاحتلال الإسرائيلي اللئيم يعمل منذ عقود على خلق الظروف الطاردة للفلسطينيين وتشجيعهم على ممارسة "ترانسفير طوعي" بحثا عن فرص العمل, أو هربا من صعوبة الحياة. لكن هذا الإدراك لا يعفينا من المسؤولية الذاتية, ولا يساعدنا في الهرب من الحقائق على الأرض والتي تشير إلى ارتفاع معدلات الهجرة طردياً مع ارتفاع منسوب الفشل في إستراتيجياتنا الذاتية. ليس علينا أن نتوقع من العدو سوى أن يقوم بكل ما يستطيع لتفريغ الأرض من سكانها. وليس علينا أن نتوقع من أنفسنا سوى أن نقوم بكل ما يحبط ذلك, لا ما يساعده ويحقق أهدافه!
على ذلك فإن كل ما من شأنه أن يبقي الناس متجذرين في الأرض يمثل جوهر المقاومة الحقيقية في هذه المرحلة, وبعيدا عن الشعارات الكبيرة والفارغة. المقاومة الآن هي خلق فرص عمل لعشرات الآلاف من الشباب, وتحسين أوضاع الناس, ورفع مستويات معيشتهم, وتعزيز البنى التحتية, وشق ما يمكن من طرق لوصل القرى بالمدن ومجابهة مخططات التقطيع, وتوفير المياه للقرى النائية حتى لا يهاجر أهلها إلى المدن ويتركوها عرضة لتوحش الاستيطان والمستوطنين. المقاومة الآن هي محاربة الفساد الذي أحبط وجدان الناس وأفقر أحلامهم وأفقدهم الثقة بأنفسهم. لكن ماذا عن الاحتلال؟ أيقام ذلك كله والاحتلال ماثل وقبضته لمّا تنفك بعد؟ نعم لأن هذا مقاومة طويلة الأمد له, وإفشال لما يريد. ليس من البطولة, ناهيك عن الحكمة, إبقاء التذرع بالاحتلال في كل نازلة, ولتسويغ الشلل الذاتي كي لا نقوم بما يمكن القيام به, عندما لا نستطيع القيام بما نطمح أن نقوم به.
www.deyaralnagab.com
|