logo
صحراء جافة!!

بقلم : زكية خيرهم ... 04.07.2009

في تلك الصحراء الجافة حيث الرمال تفر عبر تلك المساحات من تهافت الرياح، هاربة من موسم ذلك الجفاف الصامت الذي أجهض النسيم وأشعل التلال نارا تزيد من طنينه أزيز حرارة الشمس، لتغتال العطش، وتترك القافلة هناك تجوب في تلك الظهيرة الثملة بهذيان الاحتضار.سكرات الموت يحوم بين تلك الصخور الصحراوية الناتئة والمتراصة في جنون وعبوس. ويقبل السراب متغطرس بتراخ إثر لعاب تلك القافلة المبتل بالوهم. كيف الخلاص من تحت أنقاض تلك الرمال؟ رمال مجنونة بصراخ شهوة الرياح، تشطب الصوت والكلمات وترسم بدلها أكاذيب تتكوم على شكل أمواج عالية مشلولة في زنزانة ذلك الجفاف. كيف الفرار من ذلك اللهيب وحرقة السماء المتدلية فوق تلك القافلة التي تتأرجح بين الموت والعذاب والرجفة من الوحدة.
كنت أتأمل المكان ووجعي اللاهث من ذلك المشهد، أفرك عيني لتستيقظ من كابوس هذيان عن صحراء وجهها بشكل الأفاعي، مصفرة من إثر الشمس وأشواكها خليط بلون الرماد والسواد. تتنهد في صخب مرتبك من المجهول وتضم بذراعيها ضياعا وظلاما ووحشة. جفاف ينتظر قطرة من ماء المطر القادم من سراب أو من أفق أشلاء تلك السماء اللاهثة من وجع العطش. جرح على الروح مقيم في صخرة البكاء. في تلك اللحظة الحاسمة فرت كل الأزمنة والمساءات خلف ظلال منكسرة باللهيب، وابتعد الغيم في ذلك الفضاء، فاختلط الأنين بالصراخ ثم اختنق بحبيبات الرمال التي تنبعث مع الهواء والرياح وصخب الحر. دوى صوت السكون ليوقظ كل أنواع الصراخ المحرق واشتباكات العواصف ونحيب الرياح وأزيز ينعي قطرات الندى.
صمت ساكن لحد الصمم فجأة يرتجف في لحظة خائفة، ويهيل الرعب هلعا على اختناق. بعدها يندثر كل شيء ويختفي مع الفراغ في لحظات بكماء. إنه فصل القحط الذي أقبل من جديد يحمل بين جنباته عطش الموت وعذابات اللهاث تحت سقف سماء سوداء. أهو فضاء النكران اللامتناهي يقلب أرشيف الوحل على راحة الزمن، أو ظلام المكان يشد الرحال على سرج أحزان وأهوال؟ أمواج تبكي على حضن الشاطئ، ترتجف في صمت كآبتها. جنية بمخالب الذئب، تنهش القلب وتزحف في تلك الرمال إلى ذلك الكهف وتنعي بدموع تمساح ذلك الماضي الذي كان في البرج المقدس عاليا ومكلل بلؤلؤ من البلاستيك.
ما أحلك ذلك اليوم، حيث أصبح كل شيء يسبح في وحدتها، حتى السماء كانت وحيدة بلا غيوم. كيف استطاعت تلك العاصفة الهادئة منذ عقود أن تسجن وتصلب وتسبي، وتنفي وترمي وتحرق؟ ظاهرة غريبة في تاريخ تقلب الطبيعة المخيف. طبيعة منذ سنوات كانت تهيء لهذا الاحتقان لتتفجر فجأة من دون قيد ولاشرط. منذ سنوات أحدثت جرحا نازفا يأبى الشفاء، يأبى الموت، سيظل ينبعث مع الروح لن يسامح ولو عبر الاماكن والأزمان. إلا أن الريح أخيرا تساقطت محترقة في لهيب أنفاسها، تتعثر في اكتئاب وتتساقط على أهداب الليل ....
عاصفة رملية تتعثر في سرعتها المذهلة محدثة طوفانا من الرمال الذي دفن كل شيء. فلم يبق إلا ضياع يكتم صراخه كعصفور جريح تهزأ به الريح. حتى ذلك الفراغ تمزق بالشرود. تلاشى حزنا وألما على غريزة بدائية موجعة يأبى ذكرها الزوال. مازالت كثافة رمالها المتهورة الفقيرة تهز كيان المكان. زمهريها يصم مخيلتي القديمة، تحرك أشيائي، تخترق جسدي كالرصاص، كجني يلبس روحا ويمزقها.
لكن كل الأشياء التي اختفت تحت أنقاض رمالها انبعثت من جديد. الواحات وأشجار النخيل والوديان، ونبات الصنوبر. وأقبل الحمام الزاجل وطيور النورس، والعصافير تغني مهللة بانقراض تلك الثعابين والثعالب. اختفت الببغوات والبومات، سقطت على شظية نعيقها ونقيقها الحاد الذي يؤدي إلى حد الصمم. فأصبحت رمادا بعدما أحترقت بنارها. فلم يعد يسمع لتلك العاصفة إلا عويل خفيف مخلوط بألم أبله في طريق الجنون.
لقد ظهرت الشمس وزرقة السماء وصفاء الأشياء، وزهق ذلك الزمهرير. وهاهي الطيور فوق القمم تحلق في سلام ووئام كما الأطفال خرجوا ليمرحوا ويرشقون الكرة في كل الجهات من غير أن تختفي تحت تلك الرمال.
لم يعد لتلك الصحراء العاصفة إلا أحلام تسبح في الليل مع رغبات العقل وجنونه. تزحف على الجسد الذي يتقلب في هدوء مفتعل وقلق مرتبك، وآت مجهول بغيوم صفراء بلون ذلك القحط. صحراء تومئ بهدوء طبيعة يابسة. تحتاج لماء في جميع خلايا رمالها وذرات طقسها لكي تعكس جمال واحاتها ووديانها وأشجار نخيلها.
لكن كيف ذلك ونار الشمس في جوفها؟

*كاتبه مغربيه

www.deyaralnagab.com