جنون سياسات الغرب أنتج جنون تطرف غزة!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 23.08.2009
لا تقصد هذه المقالة التورط في أي تحليل مؤامراتي يرى الغرب وراء كل مصيبة من مصائبنا، على أهمية دور الغرب في الكثير من تلك المصائب. كما لا تقصد هذه المقالة التورط في إحالة عجزنا الذاتي وشلل قدرتنا عن اجتراح أية مبادرة فعالة إلى التبرير الجاهز والسقيم بأن الغرب لن يسمح لنا بفعل كذا وكذا. لكن منطلقها، ومنطلق كاتبها، هو مناقشة أية قضية من القضايا بحسب معطياتها وظروفها، ومن دون الدخول عليها بموقف مسبق. ما تقوله وتوفره تلك المعطيات يفيد في تقديم تقييم أقرب ما يكون إلى التوازن، ولا يندفع باتجاه مؤدلج مُعد مسبقاً. ففي ذات الوقت الذي يجب أن يكون انتباهنا شديداً لانزلاقات التحليل المؤامراتي أو التبريري فإن هذا لا يعني بطبيعة الحال عدم نقد سياسات الغرب وتفكيكها وملاحقة آثارها المدمرة بموضوعية وبالحجم الحقيقي لها من دون تضخيم أو تقليل.
المعطيات التي توفرها حالة الانزلاق المتواصل نحو التطرف «القاعدي» في قطاع غزة تؤشر كلها إلى بوصلة واحدة: حالة الحصار الوحشي واللإنساني الذي يعيش تحته مليون ونصف مليون من الفلسطينين والتي تولد كل أنواع التطرف. والشروط البشعة لتخفيف ذلك الحصار والتي صاغتها السياسات الغربية - الإسرائيلية، الأميركية والأوروبية، منذ فوز حركة «حماس» بالانتخابات في كانون الثاني (يناير) 2006، هي جذر أساسي، إن لم تكن الجذر الأساسي، الذي انحدر بقطاع غزة نحو مهاوي التطرف الذي نراه الآن.
بيد أن نقطة بداية التردي في هذا كله تكمن في تفاقم الحصارات الاحتلالية الإسرائيلية مع الحصار الدولي الذي أنتج ردات فعل وظواهر متطرفة لم يبخل المناخ المحلي بتوفير البيئة المُستقبلة والداعمة لها. عندما فازت «حماس» بالانتخابات حاولت أن تقدم برنامجاً سياسياً واجتماعياً معتدلاً ومقبولاً لدى العالم. وقدم إسماعيل هنية رئيس الوزراء المكلف آنذاك خطاباً أمام الرئيس محمود عباس مثّل انعطافاً مهماً للغاية في فكر وممارسة حركة «حماس». وكان بالإمكان أن يكون ذلك الخطاب، لو توفرت له الظروف الإقليمية والدولية، بداية لمسار جديد مسيس وبراغماتي لـ «حماس». لكن الشروط الثلاثة التي وضعتها اللجنة الرباعية، وصاغها أنصار إسرائيل في الإدارة الأميركية السابقة، قطعت الطريق على أي اعتدال محتمل عند «حماس». ومنذ ذلك التاريخ وضعت فلسطين والفلسطينين، وليس «حماس» فقط، تحت حصار دولي وعقاب جماعي كانت حصيلته الأساسية، وخاصة في قطاع غزة، «تجفيف منابع الاعتدال»، وتهيئة المناخات لتطرف جديد يزايد على «حماس» نفسها. أول تجفيف لمنابع الاعتدال حدث داخل «حماس» نفسها. فخلال السنوات الثلاث الماضية يمكن رصد منحنيات تطرف جديد داخل الحركة الإسلامية الفلسطينية، خاصة على صعيد البرنامج الاجتماعي، ومن الواضح أن معظم هذه المنحنيات يأتي في سياق رد الفعل المتوتر الذي يحاول أن يثبت تشبثه بالثوابت وإصراره عليها في ظل الحصار المطبق من قبل الآخرين. داخل «حماس» وكما هو حال كل الأحزاب الأخرى، هناك رؤى وتيارات وأصوات متباينة تتفاوت بين الاعتدال والتطرف، السياسي والاجتماعي.
وعندما تتم تعرية الأصوات المعتدلة من أي رأس مال سياسي أو نجاح على الأرض، فإن النتيجة الطبيعية هي دعم الأصوات المتطرفة. لا نحتاج هنا إلى قدرة خارقة لتتبع مبتديات ومصائر التطرف ليس فقط في الحالة الفلسطينية بل في كل الحالات العربية والإسلامية الأخرى. في معظم إن لم يكن كل الأحوال نبدأ بانسداد سياسي واجتماعي متجسد في نظام سياسي مغلق (أو احتلالي في الحالة الفلسطينية) لا يتيح مجالات للتغيير السلمي أو المشاركة السياسية. تلي ذلك محاولات من قبل نخب وشرائح معارضة تتمرد على الوضع القائم وتحاول تغييره جزئياً أو كلياً. بعد فترة تطول أو تقصر تتبدى للمعارضة الصعوبة الكبيرة في تغيير الوضع القائم بسبب اعتماده على أنظمة أمنية مركبة تمكنت عبر سنوات من إطباق السيطرة الكاملة على مفاصل المجتمع. ليس هذا فحسب بل والأهم منه هو اعتماد الوضع القائم على دعم واعتراف دوليين وتحالفات وعلاقات دولية تجعل التغيير المنشود أكثر صعوبة. يؤدي الوعي المتراكم والمتصاعد في أوساط المعارضة إزاء صعوبة التغيير الجذري إلى التواضع وتبني نهج التغيير التدريجي ومن داخل النظام وليس من خارجه.
معنى ذلك أن معظم ما يبدأ جذرياً وطامحاً إلى التغيير الكلي ينتهي أو انتهى إلى التغيير غير الجذري والذي تم احتواؤه بهذه الدرجة أو تلك. وهنا نرى تحديداً تحولات واضحة للحركات الإسلامية العريضة، وخاصة الإخوانية، مندرجة في هذه السيرورات: التوجه شبه الكلي منذ ثمانينات القرن الماضي نحو المشاركة السياسية في أي فرصة للانفتاح الديموقراطي الحقيقي أو الشكلي. بمعنى آخر تتبنى هذه الحركات نهجاً سلمياً وديموقراطياً وتدريجياً ومتصالحاً (على مضض) مع كثير من المظاهر التي يرفضها القطاع الأعرض من منسوبيها بسبب التربية الصارمة والإقصائية. لكن هذا التبني أثبت بعد سنوات عدة أنه لم يحقق التغيير المنشود الذي أملته تلك الحركات. كما أن الكثير من أعضائها وفي ظل الفشل المرئي انتقل من مرحلة التذمر الداخلي والتململ إزاء خيارات قياداته السلمية، إلى التطلع نحو الجماعات والفصائل الأكثر تطرفاً، وذات الشعارات الأكثر إشباعاً للرغبة في رؤية التغيير على الأرض.
تواصل الإنهاك المتواصل للتيار الإسلامي المعتدل من خلال المزيد من تعريته أمام قواعده العريضة وإظهاره عديم القدرة على الإنجاز. والمشكلة هنا أن الفشل في إنجاز بدائل «إسلامية» مقنعة لم يُنسب إلى خواء الطروحات الإسلاموية نفسها من أية بدائل حقيقية تناسب أو تتحدى ما أنتجته الدولة الحديثة، بل نُسب إلى ظروف القمع المباشر أو غير المباشر التي فرضت على الأحزاب والحركات الإسلامية. وبالتالي حدث انحراف كبير في الربط بين النتائج والمسببات الحقيقية، وحرم الرأي العام برمته من القدرة على الحكم على الحركات الإسلامية بشكل حقيقي ودقيق وبنّاء على إمكانياتها في طرح بدائل أو غياب تلك الإمكانية. ظلت الحركات الإسلامية، ومنها «حماس»، تزعم وبقدر غير قليل من الحقيقة، أنها لم تُمنح الفرصة ولو بحدودها الدنيا كي تعمل وفق البرنامج الذي وعدت ناخبيها بتطبيقه.
ما يهمنا هنا، وفي سياق بروز البدائل المتطرفة في قطاع غزة، هو أن ذلك الإنهاك والإضعاف المتواصل لـ «حماس» زاد من تعريتها أمام قواعدها، وأمام مناصريها، وأمام المزايدين عليها إسلامياً. وأدى إلى تفلت الكثير من عناصرها الغاضبين على حركتهم بسبب فشلها على صعد متعددة. فسياسياً عملت الظروف المختلفة، وخاصة الحصار والسياسة الغربية، على إفشال سياسة المشاركة الديموقراطية ولم تنتج نتائج مقنعة للأعضاء والمناصرين. ومقاومياً انتهت حركة «حماس» بعد الحرب على غزة وأمام أعضائها ومناصريها إلى حركة غير مقاومة من ناحية فعلية، بل وتطارد من يقوم بما كانت تقوم به «حماس» مؤخراً مثل إطلاق الصواريخ أو غيرها، لأن ذلك «ضد المصلحة الوطنية». أما اجتماعياً وثقافياً فإن اشتراطات السلطة والحكومة تستلزم ممارسات وانفتاحات لا تتحملها عناصر وشرائح عريضة تربت في كنف المقولات الدينية الصارمة والمعارضة والتي لا تأبه بمعطيات السياسة والحكم. كل ذلك أتاح ولا زال يتيح مناخاً يستدعي المزيد من التطرف.
والمؤسف حقاً أنه في سيرورات المزايدة في التطرف التي نشهدها في المنطقة، وفي فلسطين راهناً، فإن شعوب المنطقة، وليس مصالح الغرب، هي التي تكون الضحية المباشرة والأهم. فكل مجموعات التطرف تزعم النطق باسم شعوبها والدفاع عن دينها، أو محاولة إعادتها إلى الطريق القويم. والشعوب هي المُدافَع عنها والمُهاجَمة في نفس الوقت، المُضللة والضالة، والتي تستوجب الترشيد وتستحق العقاب. أما المصالح الغربية والعلاقة مع الغرب فسرعان ما يتم التعامل معها ببراغماتية وتصالحات مدهشة. فمن إيران إلى «طالبان» إلى السودان مروراً بالتنظيمات المتطرفة في العراق وليس انتهاء بـ «حماس» في فلسطين، نرى استعداداً جامحاً للتفاوض مع الغرب وتقديم تنازلات على قاعدة المصالح المشتركة وحماية مصالح الغرب، لكن لا نرى نفس الاستعداد لتقديم تنازلات من قبل هذه الحركات للشعوب نفسها على صعد التطرف والأسلمة والفرض. وهكذا فإن من يدفع جنون سياسات الغرب في المنطقة هو شعوبها الواقعة بين آثار ذلك الجنون، وجنون التطرف المحلي الناتج عنها.
www.deyaralnagab.com
|