رحل شفيق الحوت وسيبقى منه الكثير !!
بقلم : رشاد أبو شاور ... 12.08.2009
(ففلسطين اليوم، التي تستأثر بموقع القلب في الجسم العربي، تدرك، ربما أكثر من أي وقت مضى في تاريخها، أن الدفاع عن موقعها والحيلولة دون شطبها مع شعبها من الوجود، إنما يتجاوزان الدفاع عن النفس إلى الدفاع عن الوطن العربي بأسره..كما تدرك في الوقت نفسه أن لا فلسطين بدون عرب، ولا عرب بدون فلسطين. شفيق الحوت: بين الوطن والمنفى، ص 14)
بعض الناس يأخذون أكثر مما يستحقون أثناء حياتهم، ولكنهم ما أن يواروا الثرى حتى تبدأ خسارتهم، فهم ينقصون مع كل يوم يمر على رحيلهم، لأنهم مُنحوا ما هم غير جديرين به، بالانتحال أحيانا، وبسرقة أدوار الآخرين أحيانا، بالتواطؤ تارةً، والتقاء المصالح تارةً أُخرى، وغالبا لأن قوى سياسية واجتماعية تعمل على رفعهم والإعلاء من شأنهم، وتبالغ وتضخّم قيمتهم ودورهم خدمة لدورها، ثم يأتي الموت ليختطفهم من بين الأحياء فيخضعون عندئذ للتقييم الحقيقي بدون ضغوطات، ودعاية (بروباغندا)، وهكذا يضمر حضورهم ويبدأ في التلاشي، وتتكشف سلبيات ما تمّ تجميله من أعمالهم وهم أحياء.
بعض الناس يزداد حضورهم بعد دفنهم في الحفرة التي لا تزيد عن مترين، لأنهم تركوا خلفهم ثروة لا يمكن أن تخسر، وهؤلاء يفتقدهم الناس ويكتشفون فداحة خسارتهم لهم، وأهمية ما قدّموه لمجتمعهم، ووطنهم، وأمتهم.
شفيق الحوت واحد من الذين سيزدادون حضورا، وأهمية، وقدرا وقيمة مُنذ يوم دفن جسده في مقبرة الشهداء ببيروت يوم 3 آب (اغسطس) 2009.
هو اللبناني الأصل لجهة الأب، البيروتي العائلة ـ عائلة الحوت ـ الفلسطيني الأم، المولود في يافا عروس البحر، والتي نشأ وتعلّم في مدارسها، وربوعها، وتغذى من برتقالها، وتنفّس هواء بحرها، ونشأ على اللون الأزرق لبحرها المسافر إلى بلاد أوروبة البعيدة، محملاً بلون وعبق برتقال يافا.
يافا مسقط رأسه منحته الفرح بالطفولة والنشأة، ومن بعد، بعد النكبة، الحزن على مصيرها، وعلى الراحلين فداءً لها، وفي مقدمتهم الشقيق: جمال الحوت، الذي قضى شهيدا مع بطل فلسطين عبد القادر الحسيني.
شفيق الحوت مُتعدد المواهب، فهو صحافي كبير، يمزج بين الكتابة الصحفيّة والثقافة الأدبيّة التي مكنته من كتابة ألوف المقالات التي أثرت الصحافة اللبنانيّة منذ العام 58، عندما وضع في امتحان تحد أثناء غياب مؤسس الحوادث (سليم اللوزي) الذي اضطر للهرب إلى دمشق مع بداية الوحدة المصرية ـ السورية، فارتقى شفيق الحوت بمجلة 'الحوادث' من مجلة منوعات إلى مجلّة سياسيّة تتابع وتغطّي الأحداث في بلاد العرب، وتنحاز للحقبة الناصرية، وللوحدة، ولمحاربة سياسة الأحلاف إبان رئاسة كميل شمعون.
شفيق الحوت خطيب مفوّه، بل هو واحد من ألمع الخطباء العرب، وقد منحه الله قبولاً وحضورا، و(طلة) باهرة، وقدرة مسرحية على الأداء، وحنجرةً عريضة عميقة غنية، وإيمانا لا يتزعزع بقضايا مقدسة لم يحد عنها طيلة حياته، منحها كل مواهبه، وطاقته: فلسطين، الوحدة العربية، المشروع النهضوي الوحدوي الناصري، التبشير بالمقاومة، الإسهام في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب المؤسس والباني الأستاذ أحمد الشقيري، الذي أوجد المنظمة من لا شيء، فكان انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القدس إيذانا بحقبة جديدة مبشّرة في حياة الشعب الفلسطيني والقضيّة الفلسطينيّة...
شفيق الحوت هو المؤسس الأول لجبهة التحرير الوطني الفلسطيني، في ظروف العمل السري، والتي اختار أن يرافقه في قيادتها بعض ألمع وأبرز المثقفين الفلسطينيين الذين لم تدمّر وتحبط أرواحهم نكبة الـ48، وكانت الكاتبة الكبيرة والإعلامية البارزة سميرة عزّام أحد رفقائه في التأسيس.
آمن شفيق الحوت بالدور الريادي القيادي للمثقفين إن هم أدركوا أهمية أدوارهم، وواجباتهم، وأهمية تسخيرهم لثقافتهم في خدمة شعبهم وقضيتهم، وبقي وفيّا دائما لمنطلقه هذا، وهو ما كلفه التعرّض لعدّة محاولات اغتيال، أدت إحداها إلى إصابته في كعبه، وإحداها كادت تؤدي إلى موته حرقا في صحيفة 'المُحرر'، وعندما برز نشاطه في لبنان في خدمة منظمة التحرير الفلسطينيّة أُطلقت عدّة صواريخ على مبنى المنظمة في شارع المزرعة، ولكنه نجا بأعجوبة، وكشفت الجريمة عن عقلية العدو الصهيوني الذي بدأ حقبة مطاردة المثقفين الفلسطينيين، والذي اقترف جريمة اغتيال الكاتب الكبير غسان كنفاني، وأصاب الدكتور المفكّر الباحث ومدير مركز الأبحاث الدكتور أنيس صايغ، بطرد متفجّر أدّى إلى فقدانه لضوء إحدى عينيه، وبتر بعض أصابعه، كما أُرسل طرد متفجّر لرئيس تحرير 'الهدف' الذي خلف الشهيد غسان، بسام أبو شريف الذي ما زال يعاني من آثار تلك الإصابة في سمعه وبصره وأصابع يديه، ثم لتتوالى عمليات اغتيال المثقفين الفلسطينيين والعرب المنتمين للمقاومة في العواصم الأوروبيّة.
أدى شفيق الحوت (أبو هادر) دورا كبيرا في الحفاظ على تمثيل منظمة التحرير الفلسطينيّة بعد رحيل القيادات والكوادر عن بيروت عام 1982، ولم تكن هناك إمكانات مادية بين يديه يسعف بها الفلسطينيين الذين تُركوا لأقدارهم، وكانت بيروت دائخة من هول الحصار، وانكسار الثورة الفلسطينية، والضعف الذي دهم الحركة الوطنية اللبنانية، وهجمة القوى الرجعية المتحالفة مع الاحتلال الصهيوني الذي اقتحم بيروت الغربية بعد رحيل الثورة الفلسطينيّة.
www.deyaralnagab.com
|