بقلم : رشاد أبوشاور ... 22.11.06

في أقّل من أسبوعين اجترح الفلسطينيون فعلين جماعيين، ففي بيت حانون انتفضت الأمهات والشقيقات الفلسطينيّات، وأنقذن الأزواج، والأشقاء، والأبناء، من حصار الطائرات، ودبّابات (الميركافا) التي أذلّها مقاتلو حزب الله في جنوب لبنان، فاستدارت هي المنكسرة لتتنمّر علي شعب أعزل، لا صواريخ متطورة، ولا راجمات بين أيدي مقاتليه، ولا ملاجئ في أرضه السهليّة المفروشة كالكّف.
وفي (جباليا)، التي من مخيمها اندلعت شرارة الانتفاضة الكبري (المغدورة)، ابتكر الفلسطينيون ردّاً مباغتاً لم يتوقّعه العدو الذي اعتاد أن يتصّل هاتفيّا لإبلاغ أسر فلسطينيّة ينتقيها لمعاقبتها بنسف بيوتها، دون أن يترك لأفرادها المجال لالتقاط حتي ملابسهم، أو القليل من فراشهم، وتموينهم.
عدو يتفتّق عقله الإجرامي عن عقاب شرّير تخريبي، يستثمر التكنولوجيا من طائرات استطلاع وتجسس، وهواتف نقّالة، وصواريخ لتدمير بيوت متواضعة تؤوي تحتها مواطنين فلسطينيين ذنبهم أنهم يحبّون أرضهم، وينجبون أبناء وبناتاً يتمنّون لهم حياةً أجمل وأهنأ من حياتهم.
أسرة أبونبيل بارود تلقّت إنذاراً بمغادرة منزلها فوراً، فحكم إعدام تلك الجدران صدر من قيادة جيش ملطّخ الأيدي بدم الفلسطينيين، همّه ابتكار أساليب غير مألوفة خّاصة بقتل الفلسطينيين، واقتلاعهم وبيوتهم وزيتونهم وتينهم من أرضهم.
الرّد الفلسطيني المباغت تجلّي في دقائق، فعشرات الرجال والنساء والأطفال صعدوا علي سطح المنزل، والتفّوا حوله، فصاروا بيت البيت، وهذا ما لم يتوقّعه عدو اعتاد التنكيل بالمدنيين الفلسطينيين، لنشر الذعر في نفوسهم، وشّل عقولهم عن التفكير، فبهت الذي كفر !
يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، وتدوين التاريخ ضروري لأنه شهد موقعة من مواقع شعب فلسطين، أحبط بها مخططاً استشري، وحسب المخططون أنه يدفع الفلسطينيين لليأس إذ لا صواريخ مضادة للطائرات لديهم، ولا من منقذ يأتيهم، والحصار حولهم محكم تماما حتي أن حبّة الدواء تراقب جيّداً...
يسهر الفلسطينيون علي سطح بيت آل بارود، يتناوبون حمايته، تسويره بأجسادهم، الرجال يضرمون النار ليلاً _ للتذكير فنحن في فصل الشتاء ـ يصلّون تحت سماء فلسطين المفتوحة، وهكذا يكونون أقرب إلي الله، أجسادهم تنتصب متحاذية في صّف كالبنيان المرصوص، بجباه عالية شامخة متحديّة، جباه ناس لا يهربون، ولن يهربوا، فالبيت لنا، والأرض لنا، والسماء التي تظللنا لنا...
في الليل يتمدد الرجال علي سطح البيت، وبعد صلاة الفجر، تفد نسوة الحّي، والجارات القريبات والبعيدات، بعد أن يرضعن أطفالهن، ويعددن ما تيسّر من طعام في عام (الرمادة) الفلسطيني، عام الحصار ـ للدول العربيّة الشقيقة دور فيه تسعي به للثواب من أمريكا و(إسرائيل) ـ يصلين علي سطح المنزل، ويستذكرن شهداء مضوا، وأبناء وأخوة في سجون العدو، ونساءً بعضهن أنجبن في الزنازين، فلا غرابة أن يصببن اللعنات علي هكذا سلام.
لشدّة الاكتظاظ علي سطح المنزل قال أحد الفلسطينيين: والله أننا نخشي أن يهبط بنا السقف، فالناس يتزاحمون غير هيّابين من التهديدات، ومن دوّي الطائرات.
تلفزيون (فلسطين) تألّق في نقل وقائع ما يحدث، فتح عيون كاميراته علي المشهد، ميكروفونه للمتصلين الفلسطينيين من داخل الوطن ومن الشتات، وهو استحّق الثناء الذي محضه إيّاه أهلنا.
هذه هي الجذوة التي توارت تحت دخان الخلافات، وهذه هي روح شعبنا الواحدة التي اعتادت أن تجترح معجزات الخروج من المآزق، وإنقاذ قضيتها، رغم أنها غالباً مبتلاة بقصار النظر!
هذه هي روح الانتفاضة الكبري، وانتفاضة الأقصي، وابتكار أسلحة متواضعة تلطم العدو علي وجهه فتزعجه وتوتّره وتفقده أعصابه...
شعبنا يستخدم في معركته كّل أشكال النضال، فإنقاذ المحاصرين، وحماية المنازل جماهيريّاً، وقصف سديروت وغيرها، بحيث يعرف أولئك الناس أنه ليس لهم الحق في النوم هانئين بينما تنسف البيوت علي رؤوس الفلسطينيين، ويغتال شبابهم، ويذبح أطفالهم، وأن الصواريخ البدائية تزعج، تخرمش، تقلق و..تدفعهم للرحيل عن سديروت بالألوف، وهذا ما يدفع وزير دفاعهم إلي الدعوة لتحصين 8000 منزل تقع في مرمي الصواريخ الفلسطينيّة المتواضعة!
منجم مقاومة شعبنا هي روحه الأصلب والأنقي من الألماس، روحه التي لا تقهر، والتي تبتكر وتجترح المعجزات...
بأجسادهم يحيّد الفلسطينيّون سلاح الجو (الإسرائيلي).. فلا داعي لأن يشعر بالحرج قادة وحدات الصواريخ المضادة في جيوش العرب!
البيوت الفلسطينيّة كلّها مخازن أسلحة، فالنساء مخازن ولادة، والرجال مخازن أبوّة وبنوّة، والأطفال والطفلات مشاريع أسر ستتكاثر علي الأرض الفلسطينيّة، وأجمل خصائص هذه الأسلحة البشريّة أنها تحّب بيوتها لأنها موئل الأسرة، ومخزن العواطف الإنسانيّة النبيلة، ولأن البيوت تشبه أشجار التين والزيتون فلها جذور وأوراق وظلال وارفة، ولها جيرة، وأقارب... إن بيوت الفلسطينيين تشبههم فهي من حجارة أرضنا وطينها وأخشاب أشجارنا. إنها تسكننا ونسكنها، فهي من أفراد الأسرة، وهي تشارك الأب والأم في الخصائص والسمات، ومنها يرضع الفلسطينيون الصغار انتماءهم، وهي تذكّرهم ببيوت عمرها أسلافهم وستبقي تنتظرهم علي سطح أرضهم، أو مطمورة في ثراها.
في بيت حانون، وجباليا، تتحقّق الوحدة الوطنيّة، ويستعيد شعب فلسطين المبادرة، غير معني بتوزيع مقاعد الوزارة!
بصواريخه البسيطة التي تحسّن فعلها يقول للعدو : لن نوقف القصف حتي تكّفوا عن قصفنا، وقتلنا، واختراق مدننا، والدفع بالمستعربين السفلة لاغتيال أبنائنا...
بالأجساد يقول شعبنا: هنا باقون ولن نرحل...
ولأن شعبنا لا يستجدي، ولا ينتظر من السماسرة خيراً فقد دوّت صيحة المذيع الفلسطيني في وجه أحد المواطنين المعتصمين، الذي بدأ جملته بـ(نناشد): لا تناشد أحداً، فما نفعله لا يفعله حاكم عربي، أو شعب. .
تمنيّت لو أنني هناك في قطاع غزّة، لأتوجه إلي بيت (بارود) فأصعد علي سطحه لترتفع قامتي وعنقي، وأتلو ما تحفظ ذاكرتي من قصائد عبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان، وأبوسلمي ومعين بسيسو، وهارون رشيد، وحسن البحيري...
أخوتي أيها الشعراء والفنّانون: توجّهوا إلي بيت (بارود) في جباليا، واتلوا قصائدكم من فوق سطحه فهو أنبل وأعلي منبر، طوفوا حوله وتبرّكوا به، علّقوا قصائدكم علي حيطانه. . بهذا نكبر بكم كما كبرتم بنا أيّام معركة بيروت، وسيري العالم ثقافتنا بعمقها الإنساني: شعرنا، موسيقانا، فنوننا، وهي تتصدي للأف 16 والميركافا ووحشية الاحتلال...
هيّا أخوتي وأخواتي فبيت آل بارود هو اليوم أعلي وأعظم من البيت الأبيض، لأنه بيت فلسطين...