الغُوْلَة !!
بقلم : فاطمة ناعوت ... 24.05.2009
"الغولُ"، هل يجوز أن يؤنَثُ، فيغدو "غُوْلَةً"؟ لُغويًّا، لا يجوز. فلسفيًّا، وفولكلوريًّا، بل واجتماعيًّا، يجوز جدًّا.
غَالَ: أهْلَكَ، تَغَوّلَتِ الأرضُ بفلان: ضلَّلتْه وأهلكته، اغتالَ غِيلَةً: قتلَ في غَفْلةٍ من المقتول، الغائل: الداهية المُهْلِك، الغُوْلُ: حيوانٌ داهيةٌ لا عقلَ له، ولا وجودَ واقعيًّا له، وهو المَنِيَّةُ، أي الموت والمقْتَل. يُقالُ: الغضبُ غُوْلُ الحُكْم، أي مُهْلِكُةُ. هكذا يقولُ المعجمُ.
لكن "الغولةَ" الأنثى، يقدّمُها لنا الأديب "بهيج إسماعيل" بوصفها المرأةَ التي مات عنها زوجُها، في مسرحيةٍ تحملُ هذا العنوانَ من إخراج "مصطفى طلبة". الأرملُ التي تغدو لعنةَ الواحةِ وبؤسَها. لا تبرحُ منزلها مئة يوم لا تنقصُ يومًا. لا تستحمُّ، وطبعًا لا تتزيّن. وبعدما تنقضي مدَّةُ حَبْسِها الانفراديّ، تهرعُ إلى البحيرة لتتطهّر من دنسِها(!) موتُ الزوج هو الدنس. على أنّ لعنتَها قائمةٌ لا تزولُ إلا بموتِها. أليست امتدّ بها العُمرُ بعد موتِ سيدِها: الرجل؟ لو أبصرَها أحدٌ يفقدُ البصرَ، ولو لمحها طفلٌ لا يكبُرُ، أو يُصابُ بعِلَّة أبدية. في حِلِّها وترحالِها لعنةٌ ملعونةٌ. الموتُ رحمتُها الوحيدة! هكذا سنَّ أسلافُ الواحةِ القدامى "الذكور"، ربما ليضمنوا فناءَ ممتلكاتهم بعد رحيلهم، والمرأةُ، بالقطع، أحد تلك الممتلكات. لم يُعيّن الكاتبُ الواحةَ باسمٍ كي يتسِعَ مخروطُ الرمزِ على كلِّ جهلٍ في شتى بقاع الأرض، كما لم يعيّنْ زمانًا، حتى يكرّس فكرةَ أن الجهلَ وأدُه مُحالٌ، مادامتِ الأرضُ تأبى إلا أن تلدَ لنا، بين الحين والحين، عقولاً جامدةً خاويةً، كي تؤكدَ جاهليةَ الإنسان الأبدية.
صبيّةٌ جميلة مات عنها زوجُها الموغلُ في العمر يوم الزفاف، ليتركها عذراءَ، ملعونةً، من قِبَل كلِّ أبناء الواحة. حتى أمُّها، رغم إشفاقها، لا تقدرُ إلا أن تنصاعَ لقانون السَّلف، مؤمنةً أن ابنتها "غولةٌ" مادام القدرُ رسم نصيبَها على ذلك النحو. لكنَّ البنتَ كانت مصابةً بلعنةٍ أخرى صنعتها بنفسها، فاستحقتِ اللعنةَ المزدوجة. اللعنةُ الأخرى هي "العِلْم". فقد اختارت، عكسَ كلِّ بنات وأبناء الواحة، أن تتعلّم. فلم تنصع لجاهلية الجهلاء وقاومت قانونَهم وأشهرتْ في وجههم عصا العصيان. حاججتِ الشيوخَ بالمنطق والعلم، فرموها بما تُرمَى به المرأة حينما تشقُّ عصا الطاعة في وجه ظلمٍ. بل زادوا أنها إنما قتلتِ الزوجَ، الذي ربا عمرُه على المائة، يومَ زفافه عليها!
عبر ديكورٍ بديع، وموسيقى وأغانٍ فاتنة، وملابسَ مقنعةٍ، ولهجةِ واحةِ سيوَة المصرية، وإخراج واعٍ لا هِنةَ به، وقبل كل شيء ممثلين كبار امتلكوا حساسيةَ الشخوص الذين يلعبون أدوارهم، قُدّمت تلك الحدوتةُ الفولكلورية الفاتنة على أجمل ما يكون. ليخرجَ الرمزُ صارخًا ضاجًّا بالمعنى. لذلك أهدى بهيج إسماعيل مسرحيته إلى المرأة المصرية في رحلة تحرّرها من الأغلال والظلم والظلمة.
أما الرمزُ الأكبرُ في الحكاية، أمُّ السعد، "عمياءُ الواحة"، فقدمته باقتدارٍ "بُشرى القصبي"، الناظرةُ نحو السماء أبدًا، بعينين خاويتين من البصر والبصيرة، مليئتين بالخرافة. حينما حملت خِنجرَها لتقتلَ الغولةَ، لكنها ستُخطئها لتستقرَّ الطعنةُ في قلب الأم، الجميلة "سميرة عبد العزيز". هنا رمزٌ كارثيّ. إذا اجتمعَ الخصيمان: السلطانُ(الخنجر)، والجهل(العماء)، عمّ الظلامُ. فالذي طعنَ نجيب محفوظ، واللذان قتلا فرج فودة، لم يقرءوا حرفًا مما كتبَ هذان المغدوران العظيمان. ذاك أنهم كانوا أُميّين! زواجُ السُّلْطة بالجهالة، تلك محنةُ العرب.
المصدر : المركز التقدمي لدراسات وابحاث مساواة المرأة
www.deyaralnagab.com
|