logo
الجنازة حامية والميت "غولدستون"!!

بقلم : محمود الباتع ... 09.10.2009

كائناً من كان وراء الفعل الفضائحي الذي أدى إلى إجهاض تقرير "ريتشارد غولدستون" حول المحرقة الإسرائيلية الأخيرة في غزة، فإنه كان يأمل على ما يبدو في الفرار بفعلته متستراً وراء دخان المواجهات المحتدمة في بيت المقدس حول المسجد الأقصى بين مجموعات من جماعة حراس الهيكل اليهودية وغيرها من المتطرفين الصهاينة المدعومين بقوات الاحتلال وبين المدافعين عن الحرم القدسي من الفلسطينيين المعتصمين فيه، هذه المواجهات التي يخشى في نتيجتها أن تتم صياغة الوضع النهائي لأولى القبلتين وفقاً لميزان القوى المختل وبحكم الأمر الواقع كالعادة.
ولكن حسابات هؤلاء لم تتطابق ومجريات الوضع، فقد أثارت تلك الفضيحة عاصفة ترابية من اللغط غطت أو كادت تغطي على السعي الصهيوني الحثيث لإزالة المسجد الأقصى من على وجه الأرض لصالح المعبد اليهودي المطمور في باطن الأرض بحيث لم يعد أحد تقريباً يأتي على ذكر المصير القاتم الذي تسعى إليه وتعد له وتعمل عليه دوائر التخطيط والتنفيذ في الدولة الصهيونية.
لا يمكن التماس العذر لأي كان من الضالعين في ذلك الفعل المشين والمتمثل في سحب التقرير من التصويت في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فمن المعيب تماماً العمل على تبرير قضية ساقطة ـ ناهيك عن تبنيها والدفاع عنها ـ تحت طائلة الوصم بالخيانة والتبعية للعدو، ولهذا السبب ونأياً بأنفسهم عن مساقط الخيانة، فقد تسابق المتسابقون في التنصل من أوزار هذا القرار والتبرؤ من المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عنه، على الرغم مما تشير إليه الملابسات وتدل عليه القرائن وتثبته شهادة الشهود، وعليه وبما توهمه هؤلاء دهاء سياسياً فقد آثر الجميع التفلت المريب كآخر من يعلم وعلى طريقة (كاد المريب أن يقول خذوني)، مؤثرين ألف مرة تقمص دور الزوج المخدوع على الظهور بدور الزوجة الخائنة، في أنانية واستغباء واضح للشعوب واستخفاف فاضح بأرواح ودماء الشهداء.
إن كان فلسطينياً أو عربياً أو إسلامياً، فقد تراوحت الهجمات الشرسة على سلطة رام الله بين المبدئية النابعة من خلافات منهجية مع رئاسة السلطة، وبين انتهازية من امتطى تلك الموجة فاتخذ من هذه الفضيحة سانحة لا تفوت لتحصيل ثارات بائتة أوتصفية حسابات شخصية مع الرئيس ومحيطه السياسي على ضوء خلافات سابقة، وبالطبع لم تكن اسرائيل لتدع هذه الزوبعة تمر دون أن تسهم في صب الزيت على نيرانها. فقد نشرت صحيفة "معاريف" الاسرائيلية في عدد الاثنين الماضي أن رفض السلطة الفلسطينية في البداية سحب التقرير من التصويت هو ما دعا إسرائيل إلى الكشف للسلطة الفلسطينية عن حيازتها لتسجيلات مصورة يظهر فيها "عباس" وبعض مسؤوليه وهم يحاولون إقناع وزير الدفاع الاسرائيلي إيهود باراك بعدم إيقاف الحرب على قطاع غزة قبل القضاء النهائي والمبرم على عناصر حركة حماس هناك. وأضافت "معاريف" أن إسرائيل قد هددت بالكشف عن محتويات هذه الأشرطة لوسائل الإعلام، وهو ما دفع إلى هذا التراجع الفلسطيني المفاجئ والمربك للجميع. وانظر هنا للمفارقة كيف أن شريطاً فلسطينياً لأسير يتيم قد جلب الحرية لعشرين أسيرة من حرائر فلسطين، بينما تسجيل إسرائيلي لرئيس قد صادر دماء الآلاف من الشهداء والجرحى والمروعين والثكالى وأودى بها أدراج الرياح بما يجلب العار لكل شرفاء الأرض.
هذا الحال المعيب قد أصبح على ما يبدو منهج حياة في سلطة "فيجي" الفلسطينية التي تفخر بالظهور كسلطة كل من يده له، وهو حال يعيب ويخجل كل فلسطيني وكل عربي وكل مسلم وكل إنسان شريف ممن أخذوا على عاتقهم فضح الجرائم الإسرائيلية المستمرة وتعرية الممارسات الصهيونية بحق الأبرياء العزل، فشحذوا من أجل ذلك الهمم وحشدوا الجهود بهدف مقاضاة المجرمين ـ على الأقل أخلاقياً ـ أمام هذا العالم الصامت والمنافق الذي كان قد تسلى بمتابعة المجزرة حية وعلى الهواء مباشرة بدم من صقيع وكأنه يتفرج على مباراة فوتبول مملة من طرف واحد. ولكن السؤال الجدير بالطرح هو: "هل كان تقرير "غولدستون" يستحق كل هذه الجلبة والضجيج؟
"ريتشارد غولدستون" صاحب التقرير هو قاض أممي جنوب أفريقي، قد لا تعنينا كثيراً ديانته اليهودية، كانت قد كلفته هيئة حقوقية تابعة للأمم المتحدة بتقصي الحقائق حول "حرب غزة" ففعل الرجل وأصدر تقريره المذكور متهماً كلاً من إسرائيل وحركة حماس باستهداف مدنيين أبرياء بأعمال حربية، وهذه في حساب القانون الدولي جريمة حرب ضد الإنسانية تعاقب عليها القوانين الدولية وتستدعي مثول مرتكبيها أمام محكمة الجزاء الدولية كمتهمين.
كل ما يتباكى عليه المتباكون إذن هو مجرد ورقة للأمم المتحدة التي بات معروفاً أنها بكل هيئاتها ليست سوى أداة بيد أميركا التي لن ترضى كما لم ترض يوماً بتمرير أية وثيقة تدين اسرائيل، وإن حدث ومرت مثل هذه الوثيقة فلن تجد طريقها إلى التطبيق إلا إذا وجد ابليس طريقه إلى الجنة. واسألوا عشرات القرارات الصادرة بحق اسرائيل عن مجلس الأمن، وهو الهيئة الأممية الأقوى بكثير من هيئة حقوق الإنسان التي ينتمي إليها التقرير، تلك القرارات التي ما إن صدرت حتى وجدت على الفور طريقها للاستخدام كورق تواليت من قبل اسرائيل والولايات المتحدة.
بخلاف أن التقرير المذكور قد ساوى بين القاتل والضحية من حيث ارتكاب جرائم الحرب، وهو ما يمكن فهمه بصعوبة وعلى مضض شديد تحت عنوان أن من يسرق بيضة كمن يسرق جملاً أو وطناً، في سبيل أن نرى أفراد العصابة الصهيونية من أولمرت إلى باراك إلى ليفني إلى ضابط وعساكر جيش الدفاع وهم قابعين في قفص الاتهام يساءلون ويحاسبون على ما اقترفوه من جرائم بحق الإنسانية. ولكن متى كانت القوانين والمحاكم الدولية العتيدة تطال هؤلاء وأمثالهم؟ لقد عاش كل من "مناحم بيجن" و"اسحق شامير" ما عاشا ودماء الأبرياء الفلسطينيين تقطر من أيديهما، وبينما كانت صورهما توزع على مخافر الشرطة البريطانية والعالمية كإرهابيين رسميين مطلوبين للمحاكمة، كان الاثنان يجوبان العالم طولاً وعرضاً، تفرش لهما البسط الحمراء ويستقبلهما رؤساء الدول وينالون جوائز نوبل وما إليها. ولننظر إلى "شارون" أكبر جزار في تاريخ المنطقة ومرتكب أشنع الجرائم بحق المدنيين والعسكريين على رؤوس الأشهاد، في انتظار الإذن الإلهي للدخول إلى الجحيم الأبدي دون أن تطاله يد العدالة الإنسانسة يموت على فراشه كما تموت العير، ولا نامت أعين الجبناء!
هل الإدانة الأخلاقية لإسرائيل هي ما يفتش عنه المفجوعين بتقرير "غولدستون" ؟
لقد وقعت الإدانة الأخلاقية للدولة الصهيونية منذ سنوات عندما أقر ستون في المائة من الأوروبيين في استطلاع صحفي بأن اسرائيل تشكل أكبر تهديد للأمن العالمي كونها أكثر الدول عدوانية في العالم. وهو ما يعكس الإطار الحقيقي الذي ينظر إليها العالم من خلاله، غير أن هذا العالم المنافق يعتبر هذه الدولة المارقة تماماً مثل عاهرة الحي، يلعنها في الصباح ويرتمي تحت أقدامها سكارى في المساء.
ساذج كل من يظن أن تقريراً بائساً لموظف أممي بائس يخدم في هيئة دولية أشد بؤساً يمكن أن يضيف أية نقطة على حروف الحقائق المرة التي لا تخفى على أحد. وأكثر سذاجة منه من يصر على قبض الريح فيما يراهن على قدرة أو حتى رغبة "أوباما" في تبديل أو تحويل أي شيء من هذه الحقائق. وقد تابعنا جميعاً معركة عض الأصابع بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية حول مسألة تجميد الاستيطان ومقايضتها باستئناف المفاوضات، والتي انتهت بالضربة القاضية لصالح "بنيامين نتانياهو"، بطل العالم الحالي في الضرب تحت الحزام.
ليست اسرائيل هي المستهدف من مثل هذه والتقارير، وليست هي المقصود على الإطلاق من تشكيل هكذا لجان، ولا أحسب "ريتشارد غولدستون" وهو يخط فقرات تقريره ويصمم قفص الاتهام ذاك إلا قد فصله على مقاس شخوص الفلسطينيين ممن يذرفون سخين الدموع على إفشال المشروع.


www.deyaralnagab.com