إلى متى يبقى العرب فئران تجارب؟!
بقلم : د.فيصل القاسم ... 27.09.2009
تتخبط المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج في بحر من المتغيرات والزلازل الاجتماعية المخيفة بحيث لا تستطيع أن ترسو على بر. لماذا؟ لأنها أولاً محكومة بأنظمة سياسية تابعة وغير مستقلة ولا مستقرة، وتنفذ سياسات وضعها الغير لها، وثانياً لأنها ليست أكثر من مختبرات تجارب إن لم نقل فئران تجارب. فهي مطلوب منها أن تغير نمط حياتها وثقافتها وحتى معتقداتها بين عقد وآخر كي تتماشى مع المتحكمين بها خارجياً.
قبل أقل من نصف قرن من الزمان وهي فترة قصيرة جداً في عمر الشعوب سنـّت أمريكا ومعها بعض القوى الغربية المتحكمة بمنطقتنا جغرافياً وديموغرافياً وثقافياً وإعلامياً ما يشبه الفرمانات والمراسيم الملزمة لبعض دولنا كي تتبع نظاماً إسلامياً متزمتاً ومناهج تعليمية متحجرة لأنها وجدت في مثل هذا النظام الوسيلة الأنجع للوقوف في وجه بعض النظم السياسية العربية الناشئة التي قد تهدد مصالحها في المنطقة كالنظم القومية والاشتراكية التي كانت تابعة بدورها للمعسكر السوفياتي. بعبارة أخرى فإن المجتمعات العربية ذات التوجه الإسلامي أو الاشتراكي أو القومي كانت بمجملها ضرورات أملتها العوامل الخارجية أكثر منها المتطلبات الداخلية. فهذا النظام أقام دولة "إسلامية" كي يرضي أسياده الأمريكيين والأوروبيين، ويحارب إلى جانبهم، وذاك أنشأ نظاماً اشتراكياً نزولاً عند رغبة أسياده السوفيات بما ينطوي عليه ذلك من فرض وقهر وتوجهات قسرية مخالفة لطبيعة المجتمع وميوله الإنسانية. وبعد أن تغيرت التحالفات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور أمريكا كقطب أوحد، كان لا بد للمجتمعات العربية أن تتغير مائة وثمانين درجة كي تواكب سادتها الأمريكيين الجدد الذين لم تعد تناسبهم النظم الاجتماعية التي أمروا بقيامها ودعموها في النصف الثاني من القرن العشرين. لهذا السبب تحديداً نرى أن المجتمعات العربية تتخبط هذه الأيام في بحر من الفوضى والاضطرابات والهزات الاجتماعية والسياسية الرهيبة من المحيط إلى الخليج.
لقد دأبت بعض الأنظمة العربية منذ أكثر من خمسين عاماً على بناء ما تزعم أنه مجتمعات إسلامية الطابع، وجندت لها ميزانيات هائلة كي تكرسها وتقويها وتثبت أسسها من خلال وسائل إعلام ونظم تعليمية "متأسلمة". وقد كان الهدف من كل ذلك في واقع الأمر ليس إقامة مجتمعات إسلامية بل من أجل صد التغول الشيوعي في المنطقة العربية الذي كان ينافس الهيمنة الأمريكية. وقد تطور هذا المجتمع الإسلامي المزعوم في ذروة الصراع السوفياتي الأمريكي في أفغانستان كي يزود من يسمون بالمجاهدين الأفغان بمزيد من المقاتلين العرب العقائديين من أجل طرد "الغازي السوفياتي". وقد تبين فيما بعد أن الاستخبارات الأمريكية ومعها بعض الأجهزة العربية كانت وراء هذه اللعبة القذرة التي راح ضحيتها الألوف من المضحوك عليهم من السذج العرب الذين يتعذبون الآن في غوانتانامو وغيرها من المعتقلات العربية "الغراء" بعد أن انتهت مهمتهم "الجهادية". وقد كان الهدف الأول والرئيس من تلك الحملة "الإيمانية" الملعوبة جيداً طرد المحتل السوفياتي من أفغانستان كي يحل محله الأمريكيون فيما بعد بطريقة منظمة وملعوبة كالشطرنج في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
لم يعد الإسلام الجهادي مطلوباً بعد أن تخلصت أمريكا من عدوها التقليدي الشيوعية، وبالتالي لا بد من تفكيك المجتمعات التي عاشت على الأصولية الجهادية لعقود. ومطلوب الآن تفصيل إسلام "ليبرالي" جديد يناسب المجتمعات التي يريدها الغرب. لا عجب إذن أن قام معهد "راند" الشهير للبحوث والدراسات ووضع السياسات بتعيين السيدة شيرلي بينار زوجة المبعوث الأمريكي إلى أفغانستان خليل زلماي لتكوين إسلام جديد يتوائم مع المخططات الأمريكية الجديدة في العالم العربي. وقد قدم المعهد فعلاً تصوراً جديداً لهذا الطراز "الحديث" من الإسلام الذي من المفترض أن ينقلب مائة وثمانين درجة على الإسلام الذي كان مطلوباً أيام الحرب الباردة. إنه "الإسلام الليبرالي" الذي يقبل بكل الأطروحات والمفاهيم والقيم الغربية، ويساعد على نشرها وترسيخها في المنطقة. لا عجب أن رأينا بعض "الإسلاميين العرب الجدد" يقودون الحملة الجديدة لتطهير العالمين العربي والإسلامي من الفيروس الأصولي القديم، ويبشرون ب"التسامح والمحبة والديمقراطية". لا بل إن أحد المتطوعين الإسلاميين اعتبر أن الجهاد الحقيقي ليس مقاتلة الأعداء والدفاع عن الأوطان، بل "جهاد التنمية" وهو مصطلح مزيف جديد ابتكروه كي يتماشى مع عملية التفكيك المجتمعية المطلوبة والمشاريع الإصلاحية المزعومة، وكي يبعد الشعوب عن المقاومة والتصدي للغزاة الجدد. ولعلنا رأينا كيف يوصمون كل من يحمل السلاح في وجه مغول العصر في العراق بأنه إرهابي.
من هو المخول والقادر إذن على القيام بهذه المهمة التفكيكية للمجتمعات العربية المطلوب إعادة تركيبها؟ إنه الإعلام، وليس أي إعلام، بل الإعلام الترفيهي التجهيلي الهابط المعتمد على إثارة الغرائز ومسح العقول وتغييب الوعي، خاصة وأن المهمة أمامه شاقة للغاية وتحديداً في البلدان التي حملت مشعل الإسلام الأصولي. فليس من السهل تحويل اتجاه المتزمتين دينياً باتجاه العولمة إلا بفضائيات رخيصة تنتشر كالفطر البري في السموات العربية، وتغزو عقولهم وقلوبهم بما لذ وطاب من أغان ومسلسلات محلية ومدبلجة وغانيات كاسيات عاريات وراقصات ومطربات ماجنات واحتكارات فنية شيطانية.
إن ما يحصل في هذه الكباريهات التي يقولون إنها محطّات فضائية يسيء إلينا للغاية حين يتمّ تفسير هذه الممارسات الساقطة على أنها أحد أشكال التحرّر؛ "وهكذا يسقط المواطن العادي في شرك الخلط بين التحرّر والتحلّل؛ بين الفجور والسفور؛ بين هيفاء وهبي وهدى شعراوي؛ وبين هذا المتمول التلفزيوني والمصلحين والمفكرين".
إن أبسط قواعد التحرّر، وفق أبسط المعايير، تعني احترام الإنسان، جسداً وروحاً، رجلاً وامرأة، طفلاً وكبيراً. وما يقترفه بعض الرابضين وراء جوقة الانحطاط المتلفز هو أكبر جريمة بحق الحريّة والإنسان وبحق هذه المجتمعات المسكينة التي تتقلب بين أيدي المتطرفين والماجنين ومن مكنـّهم، كما لو كانت فئران تجارب أو عجينة كتلك التي يستخدمها التلاميذ في دروس الرسم والتلوين.
في الماضي أرادونا أن نكون متدينين متزمتين. والآن يريدوننا أن نكون راقصات وراقصين وطبالين وزمارين!
إلى متى نبقى مجتمعات للتركيب والتفكيك عند الحاجة نزولاً عند رغبة هذه القوة الخارجية أو تلك؟ أما آن الأوان لأن تكون لدينا ثقافتنا الخاصة بنا المنبثقة من طبيعتنا وواقعنا وتاريخنا وتراثنا وأحلامنا وآمالنا؟ بالطبع. لكن ذلك لن يتحقق إلا عندما يكون لدينا حكومات وأنظمة مختارة داخلياً وليس مفروضة من الخارج."وعيش يا كديش ليطلع الحشيش"!!
www.deyaralnagab.com
|