بعد غولدستون: المصالحة الفلسطينية !!
بقلم : د.خالد الحروب ... 21.10.2009
لحسن الحظ انتهت المرحلة الأولى من معركة تقرير غولدستون نهاية إيجابية, ومن حقنا أن نبتهج بها ثم نبني عليها لأن المراحل القادمة هي الأصعب. الاستجابة السريعة من قبل السلطة الفلسطينية لإعادة طرح التقرير على مجلس حقوق الإنسان إثر الغضب الفلسطيني العارم على قرار التأجيل الأولي كانت إيجابية وفي مكانها ويجب أن يُنظر لها من منظور المصلحة الوطنية ويُشاد بها - أي من نفس المنظور الذي تم استخدامه لإدانة قرارها بطلب التأجيل. منظور المماحكات الحزبية لا يرى إلا النصف الفارغ من أي كأس, كما أن منظور التأييد الأعمى والتبرير المطلق لا يرى الكأس إلا ملآنا ويطفح بالماء.
درس غولدستون بليغ ومرير وقد تسبب في إهدار طاقة داخلية هائلة وانعكس على ما هو أهم وهو ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية, لذا يجب أن تتم الاستفادة منه وطنيا وفلسطينيا قبل أي شيء آخر. الجانب الأول من ذلك الدرس يقول بأن على أي طرف فلسطيني وخاصة من يجلس في سدة القيادة أن يكون في منتهى الحذر إزاء اتخاذ أي قرار خلافي. الوعي الفلسطيني العام والمسيس ورغم ما تعرض له من إنهاك وما تشي به مظاهر الإحباط واللامبالاة, إلا أنه ما زال يقظاً ويضع خطوطاً حمراء سميكة. هناك ما قد يُفهم على أنه قرار اضطراري تفرضه ظروف وضغوطات أمريكية وإسرائيلية وقد يُقبل على مضض, كما هي كل عملية أوسلو وما تناسل عنها, ولكن هناك ما لن يُفهم أو يُقبل حتى لو صاحبته كل الظروف والضغوطات. الجانب الثاني من الدرس متعلق بالأطراف الفلسطينية الداخلية وخاصة حماس, ويشير إلى خطورة الهدم الذاتي على مستوى وطني لتسجيل نقاط حزبية. فالمعارضة الشعبية للقرار الأولي بالتأجيل كان منطلقها الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين, وليس تصفية الحسابات الفتحاوية الحمساوية. ولذلك فإن حدة خطاب حماس ولهجة التخوين والانقضاض على ما حدث التأجيل وكأنه فرصة ذهبية للإجهاز على "العدو الفتحاوي", كادت أن تحرف كل الغضب الشعبي عن بوصلته وهي محاسبة "العدو الإسرائيلي". والجهد الذي استنزف في المعركة الداخلية حول تقرير غولدستون, ومعظمه محق وشرعي الحدوث, أكل من اللحم الحي لملف المصالحة الوطنية الذي كنا قريبين جدا من التوقيع عليه. ليس هناك حاجة لذكاء إضافي للاستنتاج بأن حماس اختبأت خلف زوبعة التقرير وضاعفت منها لتأجيل التوقيع على الورقة المصرية لأن لها ملاحظات عليها.
الجانب الثالث من درس تقرير غولدستون يجب أن تستثمره القيادة الفلسطينية وتحمله إلى الأطراف "الضاغطة", وتستقوي به. الشعب الفلسطيني ليس قطيعا من الأغنام يُساق إلى حيث تأمر واشنطن, أو تهوى تل أبيب. رأي الشعب الفلسطيني ومزاجه وأحلامه ووجدانه يجب أن يقع في قلب الحسابات السياسة والقرارات التي تتخذ. لماذا تأخذُ تلك الحسابات بالاعتبار مصالح وآراء مجرمي الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية وعتاة متطرفيهم, ثم تريد أن تلغي مصالح وآراء الشعب الفلسطيني برمته؟ مسؤولية الدفاع عن هذه النقطة تقع على عاتق القيادات الفلسطينية خاصة في الوقت الراهن حيث تغيب بسبب الانقسام المدمر أية آليات رقابية ومحاسبية وديموقراطية على صنع القرار الفلسطيني.
لكن المهم الآن هو السؤال وماذا بعد تقرير غولدستون؟ ما تم حتى الآن هو البداية, أما الهدف الذي يجب الوصول إليه فهو تحويل كل مجرمي الحرب الإسرائيليين ضد الفلسطينين في غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية. ليس هذا بالهدف السهل إذ يتطلب صراعا دبلوسيا وسياسيا وتعبويا وإعلاميا هائلاً. فالمسار التقليدي للوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية هو عبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة ومجلس الأمن. وفي حالتنا هذه من المتوقع أن تحاول واشنطن دفن التقرير عبر استخدام حق الفيتو.
لكن هناك مسارات أخرى خارج مسار مجلس الأمن شبه المغلق وتحتاج إلى جهود فلسطينية وعربية ودولية. ومن هذه المسارات التوجه مباشرة إلى المحكمة الجنائية بالتقرير, فهذه المحكمة تختلف عن محكمة لاهاي التي تشترط قبول الدول المعنية بأن تقوم لاهاي بالتحكيم. المحكمة الجنائية تأسست لتتجاوز النواقص الكبيرة التي شهدها القانون الدولي جراء اشتراط الموافقة المسبقة للدول المثول أمام محكمة لاهاي. الاشتراط المسبق قام على مبدأ احترام "سيادة الدولة" على أرضها وشعبها واعتباره المبدأ الأكثر قدسية في العلاقات بين الدول, ومن خلاله يتم منع التدخل في الشؤون الداخلية للدول. لكن سرعان ما تبدى قصور هذا المبدأ عندما تقوم دولة ما بجرائم ضد الإنسانية في حق شعبها نفسه وترفض الإنصات لأي مناشدات دولية, ناهيك عن قبول التدخل الخارجي, بذريعة ممارستها "حق السيادة" على أرضها وشعبها. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وخاصة في أعقاب حروب ومجازر البلقان في أوائل التسعينيات من القرن الماضي تطورت اتجاهات جديدة في القانون الدولي وخاصة في مجال القانون الدولي الإنساني, بما في ذلك مشروع "المحكمة الجنائية الدولية". الاتجاهات الجديدة تتيح تجاوز "أقنوم السيادة المقدس" وتوفر فرصا وآليات لمحاكمة الدول وقادتها ومطالبة مثولهم أمام المحكمة من دون اشتراط قبولهم المسبق. والحالة الأبرز راهنا تتمثل في صدور مذكرة توقيف من قبل المحكمة الجنائية بحق الرئيس السوداني عمر البشير, والمطالبة بمثوله أمام المدعي العام الدولي. معنى ذلك أن هناك إمكانية واضحة للاتكاء على السابقة السودانية والاستفادة منها ودراسة تفاصيلها لبناء قضية قانونية ضد إسرائيل وقادتها العسكريين ومطالبة المحكمة الجنائية بإصدار مذكرات توقيف بحقهم مشابهة لتلك التي صدرت في حق الرئيس السوداني.
لكن بعيدا عن المسار الخارجي في الإجابة على سؤال وماذا بعد تقرير غولدستون, هناك مسار داخلي يتفجر من الإلحاح وهو المصالحة الداخلية. رأينا جميعا كيف تباطأ هذا المسار إلى درجة التوقف نهائيا وربما احتمالات الفشل بسبب انعكاسات تأجيل مناقشة تقرير غولدستون. الآن أصبحت تهم التأجيل وما رافقها وراء ظهرنا, ولم يعد أمام فتح وحماس إلا مواجهة استحقاقات المصالحة وجها لوجه. قبل اندلاع مشكلة تقرير غولدستون بيوم أو يومين ألقى خالد مشعل خطابا من القاهرة "بشّر" فيه الشعب الفلسطيني بأن التوقيع على اتفاق المصالحة أصبح في حكم القائم, وأن حماس سوف تتعامل بإيجابية, بل وفُهم منه, بأن حماس ستقدم تنازلات من أجل الوصول إلى المصالحة. ماذا حدث لوعد خالد مشعل, وأين هي إيجابية حماس, وما معنى "ملاحظات واستدراكات" حماس على الورقة المصرية؟ ما طرحته القاهرة على الأطراف الفلسطينية لا يتضمن "مفاجأة", بل مشروعا موسعا يمتد على خمس عشر ةصفحة نوقشت تفاصيلها مع فتح وحماس في جولات الحوار الطويلة والمملة والتي أنهكت الفلسطينيين وقضيتهم. وعلى خلفية مسودة ذلك المشروع جاءت تصريحات خالد مشعل. فهمنا أن تتلكأ حماس في توقيع الاتفاق في خضم الزوبعة التي أثارها التقرير وكان من حقها إلى جانب كل الفلسطينين أن تثير كل الأسئلة التي ثارت. لكن زال ذلك المسوغ, بل تحول إلى فرصة قد توفر أرضيات مشتركة إضافية, لأن تقرير غولدستون إن نجح في الوصول إلى المحكمة الجنائية سوف يجرم فلسطينيين أيضاً, وفيه مخاطر تجريم فكرة "المقاومة" ضد الاحتلال, وذلك كله يحتاج إلى جهد مشترك. لكن قبل ذلك وبعده تعلم حماس وتعلم فتح أن دوام الانقسام يبقى الجائزة الأثمن التي تحتضنها إسرائيل وبها تقصم ظهر الفلسطينيين داخليا وخارجيا.
www.deyaralnagab.com
|