إنهم يُعدّون طبخة السُّم!!
بقلم : رشاد أبو شاور ... 14.10.2009
ردود الفعل على دور السلطة في تأجيل التصويت على تقرير غولدستون تبدو مفاجئة لمن لا يعرف ما يمور في نفوس ملايين الفلسطينيين من غضب على ما جلبته مسيرة أوسلو.
غضب يمتد من عُمق فلسطين المحتلّة عام 48 التي توافق الحدث مع استذكارها لشهداء قضوا وهم يتضامنون مع شعبهم، إلى الضفّة الغربية حيث يتابع الفلسطينيّون الخطوات الحثيثة لبناء (الهيكل) وتدمير الأقصى، إلى المجروحين في قطاع غزّة الذين أرخص دمهم باستهتار.
تفويت فرصة التصويت على تقريرغولدستون تفضح عقلية الانتقام من أهلنا في غزة وقود كل المعارك عبر التاريخ البعيد والقريب، الذين احتضنوا العمل الفدائي منذ منتصف الخمسينات بقيادة مصطفى حافظ الشهيد، وحتى تأسيس منظمة التحرير بقيادة الباني المؤسس الأستاذ أحمد الشقيري الذي حرص على تأسيس الكتائب الأولى من جيش التحرير الفلسطيني على أرض القطاع، ومن إرادة المقاومة التي تفجّرت بعد هزيمة حزيران 67.
رد الفعل تعبيرعن غليان واحتقان طال احتباسه، وثورة كرامة وطنية على مستهترين خُيّل لهم بأنهم (يقودون) الشعب الفلسطيني العريق في كفاحه، وقد دُجّن، بحيث يؤخذ حيثما يشاءون دون أي احتمال من ثورة مفاجئة على تواصل الاستخفاف به وبحقوقه الوطنيّة.
حيويّة الشعب الفلسطيني تجددت وانفجرت دفعة واحدة، لأن ما جرى في جنيف فاق كل حد، فهو فجور لم يسبق لقيادة فلسطينية أن أقدمت على اقتراف ما يشابهه!
في الداخل كان أهلنا يحيون ذكرى شهداء دعم الانتفاضة، وفي القدس يرابطون في الأقصى، وفي القطاع يتعرضون يوميا للقصف وفقدان المزيد من أبنائنا وبناتنا الذين يسقطون شهداء وجرحى.
جماعة أوسلو بدأوا مع احتدام الحملة الشعبية بالتنصّل من تحمّل المسؤولية، ثمّ أخذوا يتلمسون المبررات لما حدث عندما أدركوا مدى فداحة خساراتهم الشخصية!
منذ الساعات الأولى للفضيحة بدأت تتوالى نداءات وبيانات ومقترحات بضرورة محاكمة قيادة أوسلو بما جرّته على شعبنا من مصائب، وما أضاعته من أرض، وعلى فسادها مجموعة وأفرادا.
تبلور التوجه من خلال اتصالات بين كفاءات فلسطينيّة مستقلة عن التنظيمات منتمية للقضية والشعب والأمة، بأن يُدعى لتشكيل محكمة شعبية فلسطينية عربيّة دولية تنطلق من محاكمة قيادة السلطة على جريمة تأجيل التصويت على تقرير غولدستون، لتصل إلى فتح ملف مسيرة أوسلو بما جرّته على شعبنا ووطننا وقضيتنا من كوارث، أمام محكمة تقدم لها ملفات تفصيلية بحجم الأرض التي صادرها الاحتلال منذ بدأت حقبة السلطة حتى يومنا هذا، وفضح ادعاءات قيادة السلطة التي ترددها باستمرار بأنها أدخلت 200 ألف فلسطيني وأكثر إلى الضفة والقطاع، ومواجهة هذا الكذب والتضليل بأرقام المستوطنين اليهود الذين بدأوا بافتراس مدن وقرى الضفّة، ومدينة القدس، منذ التوقيع على أوسلو حتى يومنا هذا، والذي بلغ قرابة 450 ألف مستوطن مسلح يزدادون يوميا، يسرقون الأرض والماء. محاكمة الفساد ومسلسله الرهيب غير المسبوق في تاريخ حركات التحرر في عصرنا، وحتى في كثير من دول العالم الثالث المشهورة بالفساد، فالإثراء من دم شعبنا فاق ثراء بعض أمراء النفط!
هذه الهبة المضطرمة المتصاعدة فلسطينيا، والتي تجتذب اهتماما عربيا شعبيا، جعلت قيادة أوسلو وأجهزتها ومؤسساتها تقف عارية بدون ورقة توت تستر عورتها السياسية!
سيحاول جماعة أوسلو تفادي هبة الغضب، والخروج منها كما اعتادوا من قبل، ليواصلوا تدبير صفقتهم التي تطبخ في العتمة كما فعلوا في أوسلو حين فاجأوا شعبنا وجماهير أمتنا. لذا يجب أن لا يفلتوا هذه المرة، لأن الكارثة آتية إن هم أفلتوا. وللتدليل على خطورة ما يدبّر فإنني سأشير إلى بعض ما جاء في مقالة ألكس فيشمان في صحيفة 'يديعوت أحرونوت' الصهيونيّة بتاريخ 24 تموز/يوليو 2009 تحت عنوان: كل شيء جاهز ولم يبق إلا التوقيع!
يكشف فيشمان في مقالته خطوط الملحق الأمني لوثيقة جنيف، حيث يُتفق على تفاصيل التفاصيل للحل النهائي للقضية الفلسطينية.
ولأن المقال طويل فإنني سأضع أمام قرّاء 'القدس العربي' بعض أخطر ما جاء فيه والذي لم ينفه الطرف الفلسطيني، وهو كما يرى الدكتور الصديق أنيس فوزي القاسم الذي لفت انتباه كثيرين لخطورة ما جاء في تلك المقالة: لا يقّل خطورة عن تأجيل تقرير غولدستون، إن لم يفقه خطرا، لأن فيه تصفية القضية الفلسطينيّة!
في الفقرة الرابعة من المقال نقرأ ما يلي: ممثلون (إسرائيليون) وفلسطينيون يعكفون منذ عام ونصف بصورة متواصلة على إعداد الملحق الأمني الذي يحول مصطلح الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح إلى مفهوم عملي.
بعدئذ نقرأ: على رأس الطاقم الفلسطيني سميح العبد وزير سابق، ومن كان حتى قبل عدة أشهر رئيس طاقم المفاوضات الفلسطيني في قضية الحدود. ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذيّة لـ م.ت.ف المقرّب من أبو مازن، كان ضالعا ومطلعا على كل مراحل الإعداد. كما تضم المختّص البريطاني البريغادير جنرال المتقاعد جون دوفوريل الذي خدم في المنطقة حتى الآونة الأخيرة في إطار القوّة الأمريكية البريطانية الكنديّة بمساعدة الفلسطينيين أمنيا، إلى الوفد. الرئيس أبو مازن أعطى مصادقته في كل مرحلة من مراحل النقاش.
في فقرة أخرى يكتب فيشمان: ليس صدفة أن الكتائب الفلسطينية تجتاز إعدادا وتأهيلاً يتوافق مع المهمات التي خصصت لها في الملحق: الحفاظ على القانون والنظام، مهمات الاستخبارات ورقابة الحدود، ومنع الإرهاب...
في الاتفاق الأمني يحدد الطرف (الإسرائيلي) الأمريكي ما يحظر على الفلسطينيين امتلاكه في (دولتهم) الفلسطينية: دبابات، صواريخ، سلاح مضاد للطائرات، أدوات بحار ومدفعية من كل الأنواع، راجمات صواريخ، وألغام، مروحيات، طائرات حربية. سيكون بأيدي القوت الفلسطينية 400 مؤللة خفيفة تحمل أنواع السلاح المباح فقط: سلاح خفيف ووسائل تفريق التظاهرات.
بحسب المقالة التي تكشف بنود الاتفــــاق الأمني الذي تصاغ (الدولة) الفلسطينيّة بموجبه، فقد طلب الطرف الفلسطيني فقط قاذفات آر. بي. جي لمواجهة الإرهابيين، وحتى اللحظة لم تتم الموافقة على الطلب!
حتى تضمن (إسرائيل) عدم وقوع انقلاب على السلطة، وتسرب إرهابيين، فقد وافق الطرف الفلسطيني المفاوض على بقاء قوّات (إسرائيلية) في الأغوار على الضفّة الغربيّة لنهر الأردن!
الاتفاق ينص على بناء جدران مع مصر والأردن، ومحطات رقابة الكترونيّة في قمم الجبال كجبل عيبال نابلس. سلاح الجو (الإسرائيلي) يحق له التدرب في سماء الضفّة، ومشاركة (إسرائيلية) في المعابر مع مصر والأردن.
بعد ثلاثين شهرا يصل الجانبان إلى الحدود الدائمة كما حددت في جنيف 2003 والتي تمثل تبادلاً للأراضي، وهي حدود متحركة، ويتراوح طولها بين 600 و700 كم...
لا حديث عن حّق عودة اللاجئين، ولا العاصمة القدس، فطبخة السّم تعد في الظلام وستخرج علينا بها عصابة تمضي دون رادع في إضاعة القضية، وعندها سنسمع بيانات الشجب العاجزة من فصائل اليسار، ومن فصائل المعارضة، وسيكون قد فات الأوان على نهوض حالة المقاومة بسبب موقف المراوحة للواقفين في الوسط فلا هم مقاومة ولا هم منخرطون نهائيا في السلطة، بينما يتواصل التلهي بالمصالحة وتأجيلها، ويتوه الناس فلا دليل ولا حادي للركب، ولكنها المتاهة إلا إذا غادر المترددون الانتظار والمساومة وعادوا لخيار المقاومة قبل فوات الأوان، ووقوع مفاجأة أكثر خطورةً من جريمة وكارثة أوسلو!
www.deyaralnagab.com
|