علاقات عامة لنصرة القدس!!
بقلم : نقولا ناصر* ... 31.10.2009
لا يمكن طبعا إلا الإشادة بأي جهد ينصر القدس المحتلة، جهادا أو مالا أو قولا وهو أضعف الإيمان، وفي هذا السياق العام تندرج رعاية العاهل المغربي محمد السادس لملتقى القدس الدولي الذي احتضنته الرباط يومي الأربعاء والخميس الماضيين، لكن هذا الملتقى يذكر مرة أخرى بأن نصرة القدس على المستوى الرسمي عربيا وإسلاميا تكتفي هذه الأيام باستغلال مناسبات مماثلة للعلاقات العامة تكفي المؤمنين شر القتال من جهة، وتغطي على العجز الرسمي من جهة ثانية، وتساهم في امتصاص النقمة الشعبية على انعدام الفعل الرسمي من جهة ثالثة.
لذلك فإن المراقب -- ناهيك عن عرب فلسطين مسلميهم ومسيحييهم من أهل القدس وما بارك الله حولها -- لا يسعه إلا الاتفاق مع منسق اللجنة المغربية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني خالد السفياني الذي اعتبر الملتقى منتدى "لإجراء الحوارات وليس لاتخاذ القرارات" وطالب باجتماع لجنة القدس المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي "لاتخاذ قرارات عملية لحماية القدس والمقدسيين"، وربما كان يأس السفياني من مؤسسة القمة العربية والإسلامية السبب وراء عدم مطالبته بانعقاد إحدى المؤسستين، بعد أن أشبعت قضية القدس حوارا حد التخمة دون أن يتمخض عن هذه الحوارات قرار واحد في الأقل يلتزم بتنفيذ واحد فقط من ركام القرارات الدولية والإسلامية والعربية والفلسطينية الخاصة بالقدس التي يتراكم الغبار عليها، دون حاجة إلى اتخاذ أي قرار جديد.
وإذا كان انعدام الفعل على الأرض لم يترك لقيادة التفاوض الفلسطيني في منظمة "التحرير" الفلسطينية مهمة سوى عدم تفويت حضور أي مناسبة علاقات عامة كمسوغ لمشاركة الرئاسة برام الله في الملتقى، فإن المراقب لا يسعه إلا التساؤل مستنكرا عن السبب الذي يدفع محمود عباس ومعه أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى ووزير خارجية السنغال ماديكي نيانغ الذي ترأس بلاده قمة منظمة المؤتمر الإسلامي وممثل الأمين العام للأمم المتحدة روبرت سري ونائب رئيس الوزراء التركي ووزراء خارجية المغرب والأردن ومصر وماليزيا وروسيا واسبانيا إلى المشاركة في الملتقى للحوار بينما لا يجدون وقتا في الظاهر لعقد اجتماع رسمي يتخذ قرارا عمليا واحدا يغني عن سلسلة من الملتقيات المماثلة.
إن من يراجع البلاغة الخطابية للرسميين العرب في الملتقى يتوهم أن المنطقة مقبلة على منعطف حاسم حول القدس، التي وصفها ممثل فلسطين في الملتقى محمود عباس، على سبيل المثال، بأنها أصبحت "عنوان المواجهة وموضوعها ومضمونها" وأن استمرار الوضع الراهن فيها يهدد باندلاع "حرب دينية"، وكمثال آخر وصفها وزير الخارجية الأردني ناصر جودة بأنها "خط أحمر" يمثل المساس به "تحديا مباشرا للأردن وأمنه وثوابته" ليخلص إلى القول إنه "لا سلام إقليميا ولا استقرار إذا لم تكن القدس هي العنوان، إلخ.
ألم يكن أجدى للدول التي شاركت في الملتقى على مستوى وزراء الخارجية أو على مستوى أرفع أو أدنى أن تعقد اجتماعا رسميا لممثليها في الرباط "يقرر" في الأقل إنشاء صندوق طوارئ يضعون فيه مساهمات أولية رمزية لإغاثة المتضررين من الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة ل"القانون الدولي" في المدينة المقدسة، ليتركوا "الحوار" للقيادات الدينية والسياسية غير الرسمية المشاركة في الملتقى؟
وهذا أضعف الإيمان، إذ لا أحد لا من عرب فلسطين ولا من شعوبهم يتوقع منهم "إنقاذ" القدس بعامة، ولا "القدس الشرقية العربية" التي قلصها "الاستيطان الإسرائيلي .. إلى أقل من 12 في المائة"، كما قال عبد الكريم العلوي المدغري مدير عام وكالة "بيت مال القدس" التي يرأسها العاهل المغربي والتي نظمت الملتقى بالتعاون مع "مؤسسة ياسر عرفات" الفلسطينية وتنسيق مع وزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية. وكان العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني قد بادر إلى تأسيس هذه الوكالة عام 1998.
وبالرغم ن أهمية هذه المبادرة المغربية، التي ينبغي الاقتداء بها في كل بلد عربي وإسلامي، فإن الخمسين مليون درهم مغربي (حوالي نصف مليون دولار أميركي) التي أمر بها الملك محمد السادس مؤخرا لإعادة بناء كلية "الزراعة" في القدس، طبعا ضمن ال"12%" المتبقية من شرقي المدينة، هي مثال على عدم جدوى وعدم واقعية هذه المبادرة ومثيلاتها، إذ لم يبق الاحتلال الاستيطاني للمدينة أي أرض زراعية داخلها أو في محيطها يمكن أن تشجع أبناءها على دراسة الزراعة. ولو افترضنا جدلا التحاق بعض أبناء القدس للدراسة فيها فإن خريجيها لن تتاح لهم أي فرصة لتطبيق ما سيدرسونه في الضفة الغربية الفلسطينية لنهر الأردن حيث تتوفر مساحات شاسعة للزراعة، لثلاثة أسباب رئيسية الأول عزل القدس وسكانها عن الضفة مباشرة بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، والثاني أن المساحات الصالحة للزراعة في الضفة تقع ضمن المنطقة "ج" الخاضعة لسيطرة الاحتلال الكاملة حسب ذلك الاتفاق، وهي معظم مساحة الضفة التي تسيطر المستعمرات الاستيطانية اليهودية على حوالي "42%" منها والتي لم يترك الاحتلال إلا حوالي "17%" منها لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني داخل المدن حيث لا زراعة، والثالث أن الاحتلال بقرار من الحاكم العسكري منع إنشاء أي مؤسسة جامعية للتعليم الزراعي وبالتالي لن يفسح أي مجال لخريجيها بالعمل لا في القدس ولا خارجها.
قال أحد الخبراء مؤخرا إن كل سكان الضفة الغربية لن يكفوا لخدمة الحجاج والسياح الدين سيتدفقون على القدس لو تحررت، ومقاربة قضية القدس من باب التحرير هي وحدها التي يمكنها أن تعطي معنى وجدوى وواقعية للمبادرة المغربية ومثيلاتها، حتى تخرج مثل هذه المبادرات حسنة النية من شبهة كونها مجرد علاقات عامة تعفي أصحابها من مسؤولياتهم الإسلامية والعربية تجاه القدس.
لكن كل الكلمات التي ألقاها الرسميون في الرباط أكدت على مقاربة معاكسة تماما، تلخصت في التهرب من مسؤوليتهم المفترضة بمناشدة "المجتمع الدولي" التحرك من أجل "حث أطراف النزاع على التحلي بالواقعية والحكمة" و"اعتماد التفاوض والحوار باعتبارهما السبيل الأمثل لتطبيق الشرعية الدولية"، كما جاء في رسالة العاهل المغربي المضيف للملتقى إلى المشاركين فيه، لأن "فرصة السلام ما زالت قائمة" كما قال ضيفه محمود عباس، متناسين جميعهم أن الوضع الراهن في المدينة ليس إلا نتيجة لهذا النهج الذي يريح كواهل أصحابه من أعباء المسؤولية ليلقيها على عاتق المجتمع الدولي المسؤول أصلا وحتى الآن عن الوصول إلى هذا الوضع تحت مظلة وهم السلام وعمليته التي يضغط المجتمع إياه اليوم من أجل استئنافها، ومن أجل ذلك دعوا جميعهم من المضيف الملكي إلى أمين عام الأمم المتحدة بان كي-مون إلى دعم رئاسة عباس باعتباره رجل هذا النهج فلسطينيا.
لقد تزامن انعقاد الملتقى مع عرض مشروع قانون للقراءة الثانية على كنيست دولة الاحتلال الإسرائيلي يقترح تعديل القانون الأساسي لهذه الدولة لإعلان القدس عاصمة موحدة لكل "الشعب اليهودي" وليس فقط ل"دولة إسرائيل". وطالما أن الجهد العربي والإسلامي لنصرة القدس ما زال يدور في إطار العلاقات العامة، فإن المراقب يتساءل عما يمنع ملتقى القدس أو أمثاله من إعلان المدينة عاصمة "موحدة" و"موحدة" – بفتح الحاء وكسرها على التوالي -- للعرب والمسلمين، وبخاصة أن أي إعلان كهذا يصدر عن منتدى غير رسمي كملتقى القدس لن يلزم الرسميين العرب والمسلمين بأية أعباء حقيقية يحرصون جميعا على أن لا تتجاوز العلاقات العامة!
* كاتب عربي من فلسطين
www.deyaralnagab.com
|