تنحي عباس قرار شجاع يمكن تحويله لمكسب وطني !!
بقلم : د. خالد الحروب ... 11.11.2009
قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة شجاع ومهم وينطوي على رسائل عديدة جدا، ويجب أن يصر عليه الرئيس كي يتم تحويله إلى مكسب وطني. أهم وأبلغ رسالة في هذا القرار موجهة إلى الولايات المتحدة والعالم الغربي وهي أن مستويات الإنحياز إلى إسرائيل وصلت حدا يُخرج أكثر المعتدلين الفلسطينين عن طورهم. وأن خيبة الأمل الفادحة من تناقض سياسة إدارة أوباما مع خطاباته نفسه أكبر من أن يبلعها أي فلسطيني مهما بلغ تفهمه لضغوطات اللوبي اليهودي في واشنطن. وأن الاستجابات الأمريكية المتواصلة لتلك الضغوط ثم تدوير اتجاهاتها وتحويرها لتصبح ضغوطات على الطرف الفلسطيني الأضعف في المعادلة هي آلية تفجيرية كان يجب أن لا تكون ابتداء، وآن لها أن تتوقف نهائيا، وقد قادت المنطقة إلى المآلات الكارثية التي نراها جميعا.
عندما يبلغ حد الاستخفاف بالفلسطينيين زباه القصوى بتنحي عباس فإن ذلك ينذر بأن السياسات الأمريكية والغربية إزاء القضية الفلسطينية تدفع الرأي العام الفلسطيني والعربي نحوالتطرف الأقصى. وعندما تفشل الولايات المتحدة ومعها كل "المجتمع الدولي" في تجميد الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات فأي معنى وأي جدية يتبقى في كل مشروع السلام؟ وإذا استنزف الجدل العقيم والمناورات الإسرائيلية المتعجرفة حول "التجميد" عشرة أشهر من ولاية الرئيس (الواعد!) أوباما، فكم سيستنزف نقاش "تفكيك" الاستيطان من الأراضي المحتلة إذن؟ هذا ما يسأله أي فلسطيني أوعربي أومراقب أيا وحيثما كان الأمر الذي يجب أن يفهمه غربيون يُقدمون على خطوات وسياسات وتصريحات خرقاء، كما صدر ويصدر عن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون، هوأن هناك حدودا حمراء فلسطينية أيضا. وهذه الخطوط الحمراء تتحول إلى دموية وتطرفية لا يُستثنى أحد من أكلافها عند ما تستعر. المهم هنا وفي هذا السياق هوأن قرار تنحي أبومازن يعني قطع الطريق على تواصل تلقي الإهانات الأمريكية. وهنا أيضا يصبح على واشنطن وتل أبيب وكل القوى الغربية أن تدرك بعمق معنى فقدان عباس المعتدل وانفتاح احتمالات القيادة الفلسطينية على أمدية واسعة.
لكن الأهم من كل ما سبق هوأن لا يتراجع أن عباس على قراره، ولا يخضع لأية مطالبات سواء خارجية اوداخلية، غربية أوعربية أوفلسطينية. وإذا تراجع عن ذلك القرار بأية مسوغات فسوف يخسر شخصيا ونخسر وطنيا. عندها سوف تُضاف هذه الخطوة إلى سجل طويل مرير من التهديدات الفلسطينية والمناورات قصيرة النفس التي صارت إسرائيل والولايات المتحدة تدرك أنها فاقدة الصدقية، وأن الفلسطينيين سرعان ما يتراجعون عنها وعن أية تهديدات مرافقة. وهذا بالطبع سوف يُضعف أية إستراتيجيات فلسطينية قادمة ويؤكد ما صار شبه معروف من أنه مهما تبدت حدة الخطابات الفلسطينية هنا أوهناك فإن نهاياتها التراجع. وهنا لا يهم الإخراج المسرحي مهما بدا متقنا لخطوة العودة عن القرار، سواء خرجت "الجماهير" تنادي ببقاء عباس، أواحتشدت كل الأحزاب والفعاليات مطالبته إلغاء القرار. فالتجربة التاريخية المريرة في المنطقة طورت وعياً فلسطينياً وعربياً، شعبياً قبل أن يكون نخبوياً، يستسخف المسرحيات السياسية التي ترتبها الأنظمة، فتعيد رئيسا مستقيلاً، أوتورث ابنا لرئيس، أوسوى ذلك، وتفقد مزيدا من الاحترام بسببها. لا يريد الفلسطينيون أيا من ذلك كله لأنه سيخسرون جميعا. إصرار عباس على قراره سوف يعود عليه بالاحترام وعلى الفلسطينيين جميعا بالاحترام أيضاً. كما أنه ليس مطلوبا ترديد بعض التصريحات التي تتسم بخفة سياسية وتستبطن قدرا غير قليل من الاستهانة بكل الفلسطينيين والتي تقول بأنه "لا قائد ولا بديل" إلا محمود عباس. على عكس ذلك كله سوف يقدم أبومازن خدمة وطنية كبيرة إن أصر على قراره وأثبت للأمريكيين وللإسرائيليين أن قائدا فلسطينيا ومن معسكر السلام ينفذ تهديده وينتفض على السياسات المهينة عندما تتجاوز كل الخطوط الحمراء.
يمكن أيضا تعظيم مكاسب خطوة عباس هذه فيما لواستمرت عن طريق فتح كل الخيارات للنقاش بعمق وجدية ووطنية. فهناك مأزق حقيقي وكبير نواجهه جميعا: فشلت المساومة والمقاومة كلاهما في التقدم بثبات نحوإنجاز الحقوق الفلسطينية. هناك إنجازات هنا وهناك، وكل فريق يمكن أن يسوق قائمة منها، لكنها جميعا تأتي في تصنيف الثانويات، ولحد الآن ليس هناك إنجازات حاسمة على مستوى دحر الاحتلال، السيادة، الاستقلال، والحقوق الأساسية المعروفة.
المكسب الوطني الآخر والمهم الذي يمكن تعظيمه عبر هذه الخطوة يتمثل في الفصل بين رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة الفلسطينية، بما يعيد موقع وهيبة الأولى، ويساهم في تقوية خطوط رجعة هامة للثانية. سيظل أبومازن رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إلى أن يتم التوافق مع حماس على إعادة صياغتها وانضمام الأخيرة لها، في حال نجحت المصالحة. وفي نفس الوقت ترأس السلطة الفلسطينية شخصية قيادية أخرى، الأمر الذي يُعيد الأمور إلى نصابها الأصلي. ونعلم جميعا أن منظمة التحرير وهي التي فاوضت على أوسلوووقعت عليه، صارت من ضحاياه وضحايا تطبيقاته في وقت لاحق. فرغم أنها الشرعية الأعلى من ناحية نظرية وتقع فوق السلطة، إلا أن الواقع العملي قزمها لتصبح على هامش السلطة، الأمر الذي تكرس خلال وجود ياسر عرفات على رأس الاثنتين. سوف يتدعم النظام السياسي الفلسطيني بشكل أقوى إذا ما تم الفصل بين المؤسستين، وأعيد الاعتبار للمنظمة ومعها للفلسطينيين في الخارج.
على مستوى أبومازن الشخصي فإن تنحيه عن الرئاسة طواعية سوف يُسجل له، كما سُجل له إصراره على إجراء الانتخابات عام 2006. كلتا الحالتين تقدمان ممارسة سياسية وديموقراطية تطرح عناصر تسيس تُضاف إلى التجربة الفلسطينية وتساعد في ترسيخها وإنضاجها، وتبعدها عن مسارات التسيس العربي حيث يندر تواجد رؤوساء سابقين استقالوا أوتنحوا أوخسروا الانتخابات بطريقة ديموقراطية (حيث الغالبية تُزاح بالموت الطبيعي أوالقسري!). أملنا أن يُصر أبومازن على ما قاله من أن خطوته هذه ليست "مساومة، ولا مناورة، ولا مزايدة".
www.deyaralnagab.com
|