المهاجرة!!
بقلم : احمد حامد صرصور ... 09.12.2009
عمل عتالا في ميناء يافا , يافا ما قبل النكبة , يافا العرب , يافا بساتين الحمضيات , يافا الاستجمام , يافا البحر .
كان كل يوم يسبق الشمس في الظهور على الرصيف . تراه واقفا ينتظر رزقه , ينتظر ما تجود عليه السماء في هذا الميناء .
أطراف دمايته المخططة مقفوعة للخلف لتظهر سرواله الابيض , وعلى رأسه يحمل رمز العروبة , الكوفية البيضاء. يقف شامخ الرأس معتقدا ان هذ الرمز يحميه من اخطار المستقبل المجهول . لن يستطيع احد ان يزحزحه عن بيته ما دامت هذه العروبة على رأسه .
تزوج ثم انجب طفلة رائعة الجمال , ممشوقة الجسد , رفيعة الوسط , طولها فارع , رأسها عانق جنوب لبنان,ارجلها امتدت لتطال البحر الاحمر, تحتضن بحر يافا , قلبها حنون تشد اليه الرحال .
طلبوا منه ان يدعوها يافا . اجابهم : كلا هذه اكبر من ذلك .هذه ابنه هذا الرمز واشار الى رأسه .انها فلسطين . فلسطين العروبة.
لم يدم الحال اكثر من سنة واذا بيافا الصامدة اول من تسقط في ايدي المغتصبين لتهوي خلفها اللد والرمله ويصبح اسمها " يافو".
هجرها اهلها بعد حرب حامية الوطيس , استعمل فيها المحتل اعتى انواع الاسلحه الفتاكه , انه يبحث عن ارض بلا شعب لشعب بلا ارض .
رحل عنها اهلها يحملون معهم مفاتيح بيوتهم . وهاجر ابو فلسطين , هاجر هو وزوجته ولم يتسنا لهما ان يأخذا فلسطين معهما . لقد اضطرا على الرحيل بدونها . تركوها لوحدها في البيت . اعتقد ابو فلسطين ان امها حملتها وخرجت بها . واعتقدت ام فلسطين ان اباها فعل ذلك . لم يتنبها الى عدم وجودها معهما الا بعد ان تركوا يافا . لقد اراد العودة لاحضارها لكن ازيز الرصاص ودوي القنابل منعه من ذلك. رحلا على امل العودة بعد عدة ايام .
تركوا اراضي فلسطين النكبة ولجأوا مع اللاجئين الى مخيم يقع في اراضي فلسطين النكسة مستقبلا. ينتظرون العودة , فهذه الايام المعدودة والموعودة طالت على مدار تسعة عشر سنة .
كان ابو فلسطين يعد الايام والشهور والسنين لهذه العودة . انه يعيش اسوأ حالات العمر وكل هذا من اجل عيونك يا فلسطين . كان يذهب لاقرب نقطة على الحدود قبالة يافا وكانت سفاح الجبال الشرقية لكفرقاسم وينظر الى الغرب , الى هناك حيث ترك ابنته فلسطين . ويناجيها من بعيد . ما عساك فاعلة يا ابنتي , اني اشتم رائحتك ايتها الحورية , صبرا يا ابنتي سيعيدك هذا الرمز الى احضاني (واشار بيده على رأسه ) .
مرت السنوات في مخيلة ابي فلسطين متزاحمة يناجي ابنته من الحدود الشرقيه واذناه مرهفة السمع للمذياع , مذياع الرمز مذياع صوت العرب الذي كان يصرخ ليل نهار : انّا راجعون انّا راجعون . لن نتأخر ..... فلسطين. وهذا كان سلوان ابي فلسطين , كان المخدر الذي يهديء اعصابه .
ومضت تسعة عشر سنوات , دقت طبول الحرب وارتفعت شعارات رمز العروبة . هنيئا لك يا سمك , يا ابا خالد يا حبيب ..بكرة سندخل تل أبيب ... وخرجت صواريخ الظافر والقاهر من المذياع فقط لتدق المحتل , وتهيىء الطريق لعودة ابي فلسطين , الذي هرع الى مكان المناجاة على الحدود. يهتف باسم العروبة وكله شوق وحنين لمعانقة فلسطين, يحمل في يده المذياع الذي كان يبث له بشرى عودة فلسطين الى احضانه ولكن.......سرعان ما انطفأت ابتسامته ......ما هذا المذياع اللعين , يصرخ باعلى صوته اننا منتصرون , وعيناي ترى المحتل يحدث لنا النكسة . من الصادق انا ام هذا الصندوق اللعين؟
رفع ابو فلسطين صندوق العروبة الكاذبة بكلتا يديه الى اعلى , ورمى به بكل ما اوتي من قوة الى هاوية التاريخ. .لم يتأثر ابو فلسطين من الصدمة . وليكن نكبة.....ونكسة..... ولا مانع ان يكون اكثر من هذا....... فانا صابر ومرابط .
انتهت حرب النكسة. وصحى اامنكوسون من ذهولهم . واستصدر المسكين ابو فلسطين تصريح زيارة له ولزوجته من السلطات المختصة لزيارة بيته في يافا , للبحث عن ابنته فلسطين .
تسعة عشر عام خلت والحنين والشوق يلازمه لمعانقة ابنته . وهاهو الآن يعود لاراضي النكبة . ليس منتصرا بل بعطف السلطات وتكرمهم عليه. سار في شوارع فلسطين وعيناه تتلقف كل شجرة , بيت , جبل , سهل . يحاول ان يجمع في مخيلته ذكريات مرّ بها . هذه البلد الفلانيه . يا للعجب انها اطلال !!!!! اين سكانها؟ وكان يجيب نفسه بنفسه. انهم سكان مخيم الفارعة . وتلك الفريه سكان مخيم الجلزون . ونلك ونلك وتلك....
اقبلت السيارة على مشارف مدينة يافا , وكان متخيلا انه سيشم رائحة اشجار الحمضيات . لكن هيهات !!!!!!! كيف ذلك وقد قطعت , ونبت على انقاضها بيوت مدينة تل أبيب .
بدأت السيارة تغوص في اعماق يافا , واعين ابو فلسطين وزوجته تتنقلان ذات الشمال وذات اليمين . ليستوعبا ما حل ليافا في التسعة عشر سنة الماضية . يحاولا رؤية كل منظر وربطه بسلسلة الذكريات , فكانا في كل لحظة يطلبان من السائق التمهل .
هاهي رائحة البحر ما زال يروجها من حوله , انه اقوي من جبروتهم . هاهو برج ساعة يافا ما زال صامدا امام امواج البحر, يرقب المسجد الكبير الذي تحول لمركز شرطة , مخمرة ومتاجر. تحولت اسماء الشوارع الى العبرية , فاصبح شارع يافا الرئيس " ييفت"
وفجأة صرخ ابو فلسطين في اتجاه السائق " ادخل من هنا !!!!!!1ادخل من هنا !!!!!!! هذا الزقاق يؤدي الى حينا . هاهو مرتع الطفوله وراعي الشباب . هنا اقيمت افراح زواجي سبعة ايام . قف ايها السائق فخلف هذه البنايه يقع بيتي ولا اريد ان آتيه راكبا.
ترجل ابو فلسطين واقفا غير واقف فقد بدلت كل اعضاء جسمه وظائفها . القلب يخفق بشدة , الارجل لا تستطيع حمله , الايدي ترتجف والعين تذرف الدموع . في هذه اللحظة بعث البحر بهوائه ليعانق ذلك الصديق القديم , فاصابه بقشعريرة باردة اصطكت لها الاسنان وارتجفت الابدان .
سارت الارجل تحمل ما عليها من جثث في اتجاه القلب المنشود والبيت الموعود . لطالما حلم برؤيته وهو في مكان المناجاة . هاهو الآن على بعد خطوات معدودة عن اعز ما ملك . في أي حال سيرى بيته ؟ واين سيجد ابنته؟
ما ان اصبح البيت في مرمى النظر حتى رأيت ابا فلسطين يركض في اتجاهه . فقد شحن بقوة غير طبيعية استمدها من قوة صموده . وصل البيت ليخرج مفتاحه ويلجه في باب بيته . لكن المفتاح يأبى الدخول .تغير مصراع الباب , فليس باستطاعته الانتظار كل هذه المدة ؟
فتح الباب بعد طرقه واجابه صوت المستعمر . نعم من انت ؟ وماذا تريد؟
تلعثم ابو فلسطين في الاجابه التي سرعان ما جاءت . انا صاحب هذا البيت . ضحك المستعمر بقهقه جعلت ابو فلسطين يتذكر ازيز الرصاص ودوي قنابل التهجير . انه لا يستطيع عمل شيء سوى ان يكتم مشاعره , انه الآن لا يريد البيت بل ابنته .
سمح المستعمر للضيوف بالدخول , ليس محبة بهم بل ليعطيهم فرصه اشفاء الغليل برؤية بيتهم ,على ان لا يعودوا مرة اخرى وبعد ان تأكد من حملهم تصريح الامان الذي استصدروه من السلطات المختصة , الذي يثبت انهم ليسوا بارهابيين .
تجول اللاجئون في انحاء البيت واعادو ذكريات كل قطعة فيه فهذا كان مكان كذا وذلك كذا وفجأة توجه ابو فلسطين بسؤال للمستعمر . لقد تركنا في هذا البيت امانة فهل لنا استرجاعها ؟
طبعا .....طبعا ...لقد وجدت بعض الحلي الذهبيه واموال نقديه في هذا البيت . خذها ولتكن تعويضا لك على ما اصابك .
ردعليه ابو فلسطين قائلا : لم اكن اقصد هذا ولا اريده ........ لا تعويض ولاغيره . انما قصدت ابنتي التي تركتها رغما عني .
اخبره المستعمر بعدم رؤيته لهذه الطفلة في البيت . وانه لايستطيع ان يساعده في ايجادها , فقد مر زمن طويل على قصة كهذه . لكن هذا الزمن الطويل لم يردع ابو فلسطين عن حلمه بعودة ابنته اليه .
بينما هما يتجاذبان اطراف الحديث واذا بفتاة في العشرينات من عمرها تدخل البيت بلباس عسكري , وتحمل بندفية في يدها . ما ان رآها ابو وام فلسطين حتى وقفا على رجليهما فاغران فميهما من الدهشة . صرخا سويا صرخة مدويه "فلسطييييييييين" !!!!!!!!!!
انتصب المستعمر ليخرجهما من هذه الدهشة ويعيدهما الى الواقع قائلا : مهلا ايها العربي هذه ليست فلسطين هذه ابنتي "يسرائيلا"
ماذا تقول ايها الرجل ؟ انظر اليها كيف تشبه امها في ملامح الوجه , وخضرة بشرتها . انظر الى طولها الذي اكتسبته مني . انظر الى شعرها الاسود الذي نسجه لها ظلام فلسطبن . تلك الشفتان لم ترضع الا لبن عربي . وعدا ذلك هي لا تشبهك فانت اشقر اللون وهي قمحيه اللون !!!!!!!
رد عليه المستعمرقائلا : اجل لقد كان لون جدي قبل الفيين عام قمحي وهي تشبهه . وبهذه الجملة اعلن المستعمر على انتهاء الزيارة .
خرج ابو فلسطين من البيت وقلبه يعتصر الما , ثم سار في اتجاه البحر . وقف على الرصيف في نفس المكان الذي كان ينتظر فيه رزقه .
شكى للبحر همه وخاطبه قائلا : ايها البحر !!!! لقد رأيت ابنتي ولم استطع ان المسها , كان اسمها فلسطين فبدلوه ل"يسرائبلا" كما بدلو اسماء الشوارع . دخلت بيتي وطردت منه بعد ان كنت اقيم فيه الصلاة . انا مسافر الأن واريد ان أأتمنك على ابنتي . رجاءا ان تحتضنها حتي يومك الأخير.
ادار ابو فلسطين ظهره للبحر مغادرا , لكنه تحول اليه مرة ثانية , فقد اراد ان يحمله امانة اخرى . مد يده الى رأسه وخلع رمز العروبة من عليه ورمى به الى البحر, مخاطبا اياه : انا لم اعد بحاجة لهذه الرموز التي لا تسمن من جوع ولا تروي من عطش . خذها ........وابعث بها الى غيري فانا صحوت من غفلتي .
عاد ابو فلسطين الى مخيمه محموم البال , مكسور الخاطر . وضع على رأسه كوفية سوداء , اطلق عليها الكوقية الفلسطينة ليبدأ مشوار جديد , مشوار يكون فيه امل عودة ابنته بالاتّكال على الله وعلى حجارة من سجيل , وليس على عرب اموات.
عاد يناجي ابنته ويحثها على الصبر , لا بد ان تأتي لحظة العناق وينهزم الاسنعمار.
انتظر ابو فلسطين عشرين عاما اخرى حتى نطقت الحجارة , لتعلن انتفاضه هزت عرش الطاغية . اضطرته ان يعترف بحقوق ابو فلسطين في العيش كأنسان لا غير . لكن هذا الاعتراف لن يشبع رغباته انه يريد ابنته التي ضاعت.
وما زال ابو فلسطين ينتظر ويناجي رغم سرعة السنين في دولاب التاريخ . لكنه لم ولن يفقد الامل بعودة ابنته لاحضانه . فلسطين لن انساك .........فلسطين انا اهواك ........
كفرقاسم.. فلسطين
www.deyaralnagab.com
|