بلير ورئاسة الاتحاد الأوروبي.. رؤية عربية !!
بقلم : د.خالد الحروب ... 04.11.2009
هناك نقاش مهم وساخن في دول الاتحاد الأوروبي هذه الأيام حول من سيتولى المنصب الأرفع في تاريخ مؤسسات هذا الاتحاد، والذي استحدثته معاهدة لشبونة مؤخرا، منصب: رئيس المجلس الأوروبي (وهوالمجلس الذي يضم رؤوساء دول الاتحاد) — أوبالمختصر "رئيس الاتحاد الأوروبي". أحد أهم الأسماء المطروحة وإلى وقت قصير أكثرها حظا بالمنصب كان توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق.
واشنطن تفضل بلير بطبيعة الحال لكنها تلتزم الصمت ولا تعلن تفضيلها ودعهما بشكل علني حتى لا تضعفه أمام خصومه الأوروبيين وتظهره بأنه حصان طروادة الأمريكي في قلب بروكسل. كما يحظى بلير بدعم قوي من الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الإيطالي، فضلا عن معظم دول أوروبا الشرقية المؤيدة للسياسة الأمريكية وخياراتها، وتؤيد بالتالي بلير وتريد أن تكافئه على مواقفه المناهضة للسياسات الروسية، والمؤيدة لتوسعة حلف الأطلسي نحوالشرق. هؤلاء جميعا وبقية أنصار بلير في دوائر صنع القرار في العواصم الأوروبية يقولون إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى شخصية عالمية مثل توني بلير معروفة وقوية، وتستطيع أن تجمع خيوط السياسات الأوروبية وتضعها في رؤية جامعة. ويقولون إن أي مرشح آخر لا يحظى بمؤهلات بلير القيادية والكاريزما الدولية التي يتمتع بها ويمكن أن يوظفها لتمثيل وخدمة الاتحاد الأوروبي.
في المقابل يرى خصوم بلير أن موقفه خلال حرب العراق وانجراره وراء جورج بوش الابن من دون حدود قد لوث سجله القيادي، وأظهره كسياسي لا يمتلك القدرة على الاستقلال عن واشنطن، واتخاذ مسافات منها قد تتطلبها التطورات السياسية والمصالح الأوروبية. وهومشهور بنظرية المحافظة على بريطانيا وسياساتها الدولية قريبة من واشنطن إلى أقصى حد، حتى لوفسر الآخرون ذلك الاقتراب بالتبعية الكاملة، ولوكان على حساب مصالح وتماسك الاتحاد الأوروبي نفسه. إلى جانب ذلك هناك كثيرون ضد فكرة تسلم بريطاني لمنصب رئيس الاتحاد الأوروبي، في وقت ما تزال فيه بريطانيا غير "متأوربة" بما فيه الكفاية. فحتى الآن ترفض لندن الدخول إلى نطاق التعامل باليورووتتمسك بالجنيه الإسترليني، كما أنها ترفض الدخول في معاهدة "شنغن" التي تسهل التنقل بين دول الاتحاد الأوروبي وتُعفي مواطني دول الاتحاد من إظهار وثائق سفرهم على الحدود عند دخول أومغادرة أي من دوله. لهذه الأسباب وغيرها يناهض كثيرون تسلم بلير هذا المنصب وهناك برأيهم قائمة طويلة من سياسيين أوروبيين مخضرمين يستحقون هذا المنصب أكثر من بلير بكثير وغير مشكوك في "عمق أوروبيتهم"، مثل الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان، ورئيس الوزراء الإيطالي السابق رومانوبرودي. ويرى آخرون أن المنصب يجب أن يكون من نصيب الدول الأوروبية الصغرى لتعميق قوة الاتحاد وطمأنة هذه الدول بأن مصالحها ودورها وحضورها لا يقل عن الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا — التي تُحبذ استضافتها مؤسسات الاتحاد الأوروبي القيادية كي تبدومهيمنة على القيادة الأوروبية.
عربيا يمكن القول بالإجمال بأن تولي توني بلير رئاسة الاتحاد الأوربي ليس أمرا مرحباً به. فمشاركته العمياء في حروب جورج بوش الابن جعلت منه شخصية مرفوضة وفي بعض الدوائر ممقوتة إلى درجة اتهامه بارتكاب جرائم حرب. وسيكون استفزازاً لمشاعر كثيرين رؤيته على رأس الهيئة القيادية لأهم كتلة دولية تتزعم سياسات خارجية تحاول قدر الإمكان أن تظل قريبة من حقوق الإنسان أوتؤسس لها. ولونزل بلير إلى قلب أي مدينة عربية لسمع من ينعته بـ "مجرم حرب" كما تم نعته مؤخراً في غزة من قبل فلسطيني غاضب. توني بلير أسس لنفسه صورة تماثل صورة الكاوبوي الأمريكي ولا تتناسب مع ما ينزع إليه المشروع الأوروبي من ترسيخ للقانون الدولي والتعددية والتعاون الإقليمي.
لكن بعيدا عن أثر الصورة والانطباع الذي يحمله الرأي العام في المنطقة عن بلير، هناك ما هوأهم وهومخاطر تحويله سياسة الاتحاد الأوروبي إلى تابعة للولايات المتحدة في وقت بات فيه على أوروبا أن تؤكد وتكرس سياسة خارجية مستقلة عن واشنطن. أثر ونفوذ الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط لا يتناسب مع حجمه الاقتصادي ولا قربه الجغرافي من المنطقة. وهناك نقص كبير في السياسة الخارجية الأوروبية وفي كونها صاحبة مبادرة ومبادأة. ولا يُعتقد بأن بلير يمكن أن يتبنى أويُساعد في تبني سياسة متميزة عن واشنطن. وقد رأينا أداءه الباهت كممثل للجنة الرباعية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، وروسيا) في فلسطين خلال السنتين الماضيتين. فبدلاً أن يحول هذا المنصب إلى دائرة حركة مستقلة ومؤثرة وضاغطة على إسرائيل وأقرب إلى الرؤية الأوروبية، رأيناه يفرغه من أي جوهر حقيقي، بحيث صار كثيرون يتساءلون عن معنى اللجنة الرباعية ودورها، وهل تتمتع بأي استقلالية بعيدا عن نفوذ وسيطرة واشنطن؟ نعرف أن ثمة اشتراطات لأي منصب قيادي، وأن هناك قيوداً وضغوطات ومحددات، لكن نعرف أيضا أن كل منصب يكون له هوامش وفرص تطوير ودفع بهذا الاتجاه أوذاك. توني بلير لا يدفع بأي منصب يتسلمه باتجاه سياسة أوروبية مستقلة إزاء المنطقة العربية، وهذا لا يخدمها ولا يخدم مصالحها.
الأمر الآخر المُقلق في شخصية توني بلير هوتقلباته الدينية وتحوله إلى الكاثوليكية. صحيح أن هذا الأمر يقع في إطار حريته الشخصية ويجب من ناحية نظرية أن لا يكون له وزن في تقييمه كشخصية عامة. لكن حقيقة الأمر أن تدين بلير سواء قبل أوبعد تحوله إلى الكاثوليكية أمر يثير الريبة والقلق، كما هوتدين أي سياسي أوصاحب منصب قيادي في العالم. لا نعرف كيف ومتى يتسلل ذلك التدين إلى عملية صناعة القرار السياسي، وبأي اتجاهات يؤثر. وكنا قد رأيناه خلال حرب العراق يخيم على تهويمات وأوهام بوش وبلير معاً، وشهدنا النتائج الكارثية لذلك. سيكون الاتحاد الأوروبي ورئاسته أفضل ألف مرة إذا بقي بلير يوزع تهويماته تلك في قاعات المحاضرات واللقاءات التي يحصد من ورائها ملايين الدولارات كنجم وخطيب مفوه — لكن كسياسي فاشل.
www.deyaralnagab.com
|