logo
سمّ الهاري إن شاء الله...!!

بقلم : سهيل كيوان  ... 17.12.2009

مسكين الخال أبو علي، ينسى من زاره قبل ساعة وماذا أكل، وإذا ما أخذ دواءه أم لا، والنعمة الكبيرة هي أنه ما زال قادراً على وصول الحمام، ولكنه ينسى الخروج منه، يبدأ بالوضوء، ولكن ما أن يصل المسح على الرأس حتى يكون قد نسي أنه غسل المرفقين فيبدأ من جديد!
أدعوه الخال مثلما يدعو هو والدي، لأن بينهما شرش قرابة من بعد سحيق، ولكن الأهم أنه يحترم العلاقة المعجونة بالعيش والملح، وقد ارتبطت الأسرتان بالمحبة والعطف والاحترام، والجميع يدعون بعضهم بعضاً (الخال)، ولهذا من أراد أي خدمة من الخال كان يتوجه إلى والدي الذي يمون عليه، فكلمته عنده لا تصير اثنتين!
وللخال طبع سريع الاشتعال، فهو لا يطيق العوَج، ولكن المشكلة أن العوج كثيرٌ جدا بمقاييسه ومعاييره الصارمة! ولهذا لم يبق له أصدقاء منذ زمن بعيد باستثناء والدي الذي يحسن استيعابه! أما زوجته فكثيراً ما كانت تخرج من البيت زعلانة! لم تكن في ذلك الزمن جمعيات نسائية تحرضها على تقديم شكوى للشرطة لتحبسه إذا ما ضربها، فكانت تلجأ إلى بيتنا القديم لتتخذ فيه ركناً وتنتظر عودة والدي من العمل. بعد فنجان القهوة والسيجارة ولقمة الطعام، تحكي له ما حدث مستهلة كلامها..بـ'إسمع يا خالي..أنا ما عُدِت أتحمّل خالك'...فيسمع حتى النهاية وما يلبث أن يعيدها إلى بيت الخال الذي لا يرد له طلباً، أو أنه يخرج ثم يعود والخال برفقته لتعود المياه الى مجاريها!
زعل زوجة الخال تواصل حتى في الشيخوخة، وبعدما صار لهما أحفاد وأبناء أحفاد، فلا تمر أشهر حتى أراها (مكعنشة) في زاوية البيت، تحكي من جديد نفس القصة..كيف صرخ وشتم ثم مد يده عليها..تبكي تارة وتضحك أخرى...! في إحدى المرات سمعتها تقول..'ليته تزوج تلك المرأة التي أحبّها ولم أر خلقته...زواجي به كان..شَطر بَطر..!'.
مضت سنين كثيرة ولم أهتم لمعرفة حكاية غرامه والمرأة التي أحبها، كنت محتشماً في حضرته ومتأكداً أنه لن يبوح بأمر كهذا لشاب في سن أصغر أبنائه، إلى ان جاء دوري ووقعت في مطب عاطفي، وتبين أن ذوي تلك التي تخيلت أن الزهور والعطور وأغاني عبد الحليم وفيروز ونجاة الصغيرة وُجدت لأجلها على علاقة بالخال فاستشاروه بشأني!
يومها ضحك الخال وسألني إذا ما كنت أعشقها فاعترفت له..نعم يا خال...نعم أعشقها! وكانت هذه فرصتي لأسأله..وانت يا خال لا بد أنك عشقت فمن حكمة الخالق أنه جعل العشق مثل الموت لا يفلت منه بني آدم! وبسهولة أكثر مما توقعت تهللت قسمات وجهه وابتسم وشعرت بتراخي جسده صبابة وهو يقول...والله الحقيقة ما زلت أذكرها وأحبها..ولكن أولادها صاروا شبانا وتزوجوا وصار لها أحفاد مثلي! ففهمت أنه على وشك الجلوس على كرسي الإعتراف فألححت عليه فقال 'الحقيقة أنا تزوجت من هذه المستورة...مرط خالك (يعني زوجته) فقط من قلة حيلتي، أما الحقيقة فقلبي هناك ولم يتغير! هل تذكر العين...!'.
- طبعا ولو بالأمس القريب فقط أغلقوها..أذكر حشود النساء والفتيات والجرار والطناجر والتنكات على الرؤوس فوق أكاليل من القماش أو من نبات السمسم الأخضر، الفساتين المبللة الملتصقة بالأجساد، البراميل والجالونات والبغال والحمير والخيل والأحواض التي كنا نسميها (الرانات) ونسبح فيها! أذكر ضحكاتهن الخجولة، صياحهن وخلافاتهن على الدور لأن عدد الحنفيات كان محدوداً، الى جانب جيش عرمرم من الأبقار في ساحتها ساعة القيلولة، وأذكر (أبو عرب) راعي العجّال الذي هاجمته الدبابير فتورم وجهه.
يستأنف الخال وهو يبتسم راضياً 'في يوم ما وصلت صبية بدوية تقيم وأسرتها على طرف أرض البعنة، وكان على العين دور كبير وزحام والشمس تحرق ذيل العصفورة، وهي تنتظر وطال انتظارها، فانتخيت وفتحت الطريق وملأت لها جالوناتها الحديدية ثم رفعتها على ظهر بغلتها وربطتها وثبتها، ولكنني لم أكتف بهذا، فعندما اعتلت هي فوق الجالونات على بغلتها رافقتها راجلاً حتى طرف القرية الشرقي باتجاه سهل البعنة، وقبل أن أودعها استسميتها..فقالت...أنا فلانة ابنة فلان وقلت لها أنا فلان الفلاني ابن فلان!
- وهذا كل شيء يا خال؟
هنا ضحك الخال وقال-..عندما وصلنا لحظة الوداع..قرصتها!
ـ قرصتها...!
ـ أي نعم قرصتها من فخذها، ووقفت أودّعها حتى غابت عن ناظريّ، ومن يومها دخلت هذه المخلوقة إلى قلبي!
ـ وهذا كل شيء!
ـ في يوم ما سافرت إلى عكا فاقتنيت (صفطاً) من الهريسة، تحليت بقطعة صغيرة وقررت إرسال الهريسة هدية لها، ولكن كيف سأوصل لها الهدية! طفت في أسواق عكا ومطاعمها وفي حسبة الخضار حتى التقيت رجلا يدعى أبو أحمد البدران من البعنة، وكان معروفاً في كل المنطقة، قلت له...هل تحفظ الأمانة وتوصلها! فقال ..ولو يا رشاد...عليك الأمان! فقلت له...'أمانة عليك أن تسلّم صفط الهريسة هذا لفلانة ابنة فلان في طريقك، وتقول لها هذا من رشاد العلي من مجد الكروم'. عشت ساعات ثم أياماً وليالي وأنا أحلم وأتخيل فرحتها بهديتي! مضت أسابيع حتى رأيتها تأتي إلى العين مرة أخرى على ظهر بغلتها، كنت مغموراً بالسعادة والانبساط وتحينت الفرصة لأسألها..هل أعجبتك الهدية!
ـ أي هدية! تساءلت الفتاة مستغربة...
ـ صفط الهريسة...
ـ أي هريسة..!
لعب الفار بعبي وقلت- صفط الهريسة الذي أرسلته لك مع أبو أحمد البدران!
ـ يشهد الله أنني لم أر صفطاً ولا هريسة ولا بدر ولا بدران..!
ـ شو!...ساعتها قلت...عملها الخاين! انجنيت...مضيت ركضاً إلى البعنة، دخلت الحوش في وسط البلد وعرقي على طولي، وصرت أنادي..هيه يا أبو أحمد البدران..هيه يا زعيم وينك..! كان الشر في عيني ولم أخش أحداً...يعني لو تحداني عشرة رجال لطرحتهم! ناديت إلى أن سمعته يقول..تفضل تفضل مين هذا! كانت ساعة القيلولة، وهو بلباس أبيض خفيف، وقفت في فناء داره ووقف هو في المدخل..فقلت له: ألا تذكرني؟ فقال: ولو! تفضل...
فسألته ـ شو عملت بالهدية!
فرد- أي هدية!
فقلت وقد صار الشرر يقدح من عيني ـ وتسأل أي هدية! صفط الهريسة...شو عملت بالهريسة..
فقال ـ ولو يا رشاد..! جئت من مجد الكروم إلى البعنة لأجل صفط هريسة!...أكلتها...شو يعني!
- أكلتها يا خاين...إن شا الله سم الهاري..إن شا الله سم الهاري .. إن شاالله سم الهاري'قلتها له ثلاث مرات وعدت إلى مجد الكروم!
ـ وخسرت حُبّك...!
ـ نعم هي ذهبت في طريقها وتزوجت، وأنا تزوجت هذه التي تسم بدني كل فترة وتذكرني بها، فهي ما زالت تغار منها، وهذا سبب الزعل بيننا منذ تزوجنا...
ـ تغار منها...!
ـ أي نعم..وكلما دق الكوز بالجرة تقول لي..ليتك تزوجت البدوية من البعنة ولم أر خلقتك!
أذكر حكاية الخال المقتصرة على ابتسامة وقرصة وصفط هريسة، وأنظر إلى غراميات هذه الأيام، الإنترنت، الموباليات، السيارات، لقاءات الحب السريعة على طريقة الطعام السريع (الجانك فود) غير الصحي! لم تعد ثمة حاجة لأن ألح على الخال ليحكي قصته، فهو مصاب بالخرف (الألتسهايمر).. وليس عنده ما يحكيه من ذكريات جميلة سوى حكاية غرامه الخالدة، يحكيها في اليوم القصير عشرين..ثلاثين مرة وبالتفصيل المملّ دون كلل أو ملل ودون أن يطلب منه أحدٌ ذلك...سواي...


www.deyaralnagab.com