حارس البنفسج!!
بقلم : ردينة حيدر ... 17.01.2010
غروب دمشقي شتوي، وبعد أن ضاق حارس القبور أبو محمد ذرعا من ضجيج الموتى، وإضرابهم، قرر أن يفتح باب المقبرة، لبعض الوقت، ريثما يتسنى له شرب كأس الشاي بسلام.
يعرف أبو محمد أن ذلك غير قانوني، فماذا لو هرب الشهداء أيضاً!
لكنه في ذلك الغروب كان يائسا، إلى درجة أنه لم يعد يكترث بالقوانين، فقد حان الوقت أن يرضي الموتى بدلا من الأحياء.. خاصة أنه وبعد ثلاثين سنة من الحياة المشتركة معهم، صاروا أصدقاءه الحميمين..
ثم إنه من المفترض أن يكونوا في استراحة مؤقتة ريثما يصعدون إلى السماء، وليسوا في سجن، أو حجز إجباري قال أبو محمد في نفسه مبررا..
عبر الموتى بصعوبة بوابة أبو محمد، بسبب تدافعهم الشديد، لكنهم ما أن خرجوا حتى اصطدموا بحشد كبير من السيارات، هل تريدون أن تموتوا مرة أخرى صرخ أبو محمد ضاحكا.. مستنكرا: ما هذا الزمان الغريب..!
لم يواجه الموتى صعوبات تذكر في العبور إلى العالم الآخر صرخ أبو محمد مقلدا مذيعي الأخبار.. لكنهم في النهاية ماتوا جميعا اختناقا في ازدحام السير..
ضحك أبو محمد حينها حتى طفرت الدموع من عينيه، أليس أنه الوحيد الميت الذي تبقى هنا..!
لقد كان حزينا على فراق الموتى، لكنه أراد أن يحول حزنه إلى مشهد هزلي، فهو لم يعتد أن يفهم الآخرون حزنه، حزن رجل بسيط كل ما يقوم به في الحياة،هو حراسة المقبرة في قلب المدينة المكتظة بالأحياء!
رجل اعتاد، الحياة بصمت، على هامش صولات الموتى وجولاتهم.. وعلى هامش أوهام أحياء يحرسون أمواتهم..
سمع الكثير من حكايات موتهم، وبطولاتهم، ومغامراتهم العاطفية، وبسبب عددهم الكبير لم يسنح له الوقت للحديث عن نفسه.. هذا الشيء الوحيد الذي يحز في نفسه الآن بعد فراقهم.
نظر بعيدا شاردا في جسر العبور بين الحياة والموت..
نهض عن كرسيه الخيزران القديم، الذي منحته له الحكومة طوال فترة عمله في المقبرة، كي يكون شاهدا على صمودها.. تلفت حوله، وبرغم المشهد الهزلي وأداءه العالي له إلا أن أحدا لم يكترث لأمره.
رمى الكرسي جانبا.. بعد أن كال له بضعة شتائم متلاحقة، وضع يده على صدره، كان قلبه يخفق بشدة، وعيناه تجحظان، مد يده إلى صدره ضغط هناك، ظن أن قلبه يخرج من صدره.. و بالكاد همس: لن ترحلوا بدوني
في صبيحة اليوم التالي، كان جسد أبو محمد الضئيل ممدا قرب المقبرة، وكان لونه بنفسجيا، جاء المرسوم سريعا(يمنع دفن الأموات البنفسجيين في مقبرة المدينة).
قرأ أبو محمد المرسوم سريعا، حمل جسده ومضى صوب الحقول..
وهناك حيث يمكنه حراسة الحياة بدلا من الموت، وحيث سينعم بسكينة الليل، وجوقة الصباح، حفر أبو محمد حفرة على طول الحور، مدد قامته، لينام باكرا
فالمطر الصباحي بطعمه المختلف بانتظاره..
المصدر : موقع نساء سوريه
www.deyaralnagab.com
|