صندوق بريد !!
بقلم : دينا سليم ... 2.12.06
تعددت النظرات وتجهمت الوجوه الخمسة , اكتظت الخطوات نحو حامل المجهول, وازداد القلق. يأخذ الجميع زمام التأهب والركض نحو ذلك الصندوق الذي سيأتي برسالة هامة, هذه المرّة الأولى التي يُنتظر أن يحتوي هذا الجماد المتكلم رسائل محددة العنوان, وليس كالسّابق, فالمرات التي احتوى فيها عناوين مجهولة لأشخاص سكنوا البيت ورحلوا عديدة ولا تحصى !
الانتظار حمل ثقيل وصعب, يحرق الأعصاب , يوقف الساعات ويطيل الأيام .
امتلأت العيون بالحنين, أُسِرَ الأمل, حُبست الغبطة, سُجنت في قبضة السرور المؤجل وأقفلت بقيود المواعيد .
ضاقت الطفلة بينهم صبرا فأخذت تسأل والدتها :
هل يوجد في الحديقة فئراناً ؟
لم تستغرب الأم من سؤالها, إذ لا يمكن منع هواجس طفلة !
مرّ يوم آخر بأعبائه وساعاته الطويلة, هرولت عشرة أقدام الى الصندوق عشرات المرات, تاهت النظرات واستغربت العيون العشرة التأخير واحتفظ كل منهم لنفسه بالتساؤل. حاصرتهم الحيرة وأكل الوجوم من نضارة وجوههم, علق السؤال في حلوقهم, باتوا كالعجزة المقعدين, لزموا مقاعدهم صامتين لاهثين, سقطت الأطراف متشنجة, تعرقت الأكف واسترخت الأيدي, تهدلت الشفاه كأذني كلب, علقت الألسنة في الحلوق وكممت الأفواه فظهروا كالبكماء, وسبحت نظراتهم الخاوية ما بينهم حائرة ضائعة !
همست الأبنة الثانية في أذن والدتها بعد تردّد:
هل لمحتِ لصوصا في الحارة يا أماه؟
تمضي الأم الى سرير ابنتها تغطيها وتهديء من روعها, تردد معها بعض الصلوات, تحاول بالصلاة اخراج الظنون والأفكار السيئة من خلدها, تضم أناملها وتدور بيدها على رأس ابنتها مُسبحة عدّة تسبيحات, مؤكدة عدم وجود لصوص في الحارة, متمنية لها أحلاما هادئة, ولا تغادرها إلا بعد أن تذهب الأبنة عن وعيها في اغفاءة هنيئة.
تشهد العائلة أسبوعا لا يخلو من الضغوطات بسبب تأخر الرسالة الموعودة, الأبن الأكبر يّنصت لكل حشرجة كبيرة كانت أم صغيرة, يهبّ مسرعا نحو الخارج, حال أن يلمح الساعي يقترب من صندوق البريد, يحييه ويستقبله بابتسامة عريضة, ما أن يمرّ الساعي مرور الكرام, يتجهم وجهه, يعبس ويشحب, ينظر الى الأعلى وكأنه يسأل الله عن سبب التأخير.
يسهر القمر في الأعالي منتظرا أيضا, يرمي ضوءه بشوق الى العائلة المسجونة داخل الانتظار ضحية صندوق خشبي صغير. تلتصق عينا الأبنة الكبرى فيه, تتأمله وتبعث اليه أمنياتها بتحقيق مآرب عائلتها, ترمقه رمقة عتاب بسبب التزامه الصمت, ولا يكون لها مناصا سوى أن تسأل والدتها راجية:
لمَ لا نقوم بتبديل هذا الصندوق يا أماهُ بآخر, فهو مفتوح من الطرفين, ألا يمكن للرسائل التسرب من احدى الفتحتين؟
تربت الوالدة على كتف ابنتها تهدؤها, تعدها بتبديل الصندوق بآخر يكون أكثر احكاما, وتعود مجددا الى افكارها وشكوكها, ظنونها السلبية في عدم تلقي الرسالة الهامة, تضعها في كفتي ميزان غير متواز ن.
زمجرت الريح واشتدت العاصفة, بقي بيت العائلة صامدا أمامها, اكفهرت السماء وانخفضت السحب الماطرة, تدفق المطر الغزير وغمر الأرض, حجب الضباب الرؤية وغطى الأفق بسرابه.
لم يعد بالامكان ابصار لا صندوق البريد ولا الساعي إن استطاع المجيء!
تعتكف العائلة في الداخل, تراقب ساعة الحائط, تتجمع النظرات على عقاربها البطيئة, يلتفون حول المدفأة يحاولون صياغة بعض الابتسامات على وجوههم فيفشلون. الابن مطأطىء الرأس, فاقد الشهية, ينطوي على نفسه ويدخل في عمق الأرق. والطفلة ترسم في دفترها ساعٍ ورسالة, ترتجف خوفا من صوت البرق وتتوسّل المطر ألا يتلف الرسالة الورقية المنتظرة, إن وصلت, الابنة الكبرى تخفي نظراتها القلقة داخل صفحات كتاب تقرؤه, الابنة الوسطى تحاول استجماع افكارها لعلها تنجح باطلاق نكتة وتخشى الفشل, والأم صامتة, تدفن قلقها في قلبها, تبتسم فتبدو ابتسامتها جافة, تسقط نظراتها خلسة وتوزعها بين أبنائها ,تتولد لديها من جديد الذكريات السيئة بغلالها التي اعتقدتها منسية, تواري حيرتها وتتقمص الشجاعة, تحاول ايهامهم عدم الاكتراث قائلة:صبرا .
وصل السّاعي راكبا دراجة نارية, لمحته عشرة عيون مشدودة, تسمرت الأجساد مشدوهة, لم يتوقف! استمر في طريقه وانهمك بحقيبة الرسائل المكتظة, بقيت الأجساد الخمسة مكانها دون حراك, وبعد برهة وجيزة رجع الى الخلف ووضع رسالة في الصندوق الخشبي, تسارعت الأقدام قبل العيون لاستقبال الرسالة, وإذا بها رسالة اعلانية.
في اليوم الذي يليه, سُمِعت نقرات خفيفة على الباب, تحاورت العيون متسائلة, تكررت النقرات المُلحة, أيمكن أن يكون ساعي البريد؟ تسارعت الخطوات نحو الباب, وإذا بجار مسن يحمل رسالة بيده يستوضح صحة العنوان فتجيبه خمسة أفواه مؤكدة صحته:
نعم هو العنوان, العنوان صحيح, هلا سلمتنا الرسالة يا جارنا العزيز؟
كم كانت اجابته بريئة عندما أخبر العائلة أنه ترك الرسالة في البيت وأتى بالمظروف فارغًا كي يتحقق من صحّة العنوان...
www.deyaralnagab.com
|