logo
الاحتكار الاجتماعي للعقيدة!!

بقلم : محمود الباتع ... 26.11.2009

منذ أن كانت الوصايا العشر إلى أن أكمل الله للناس دينهم وأتم عليهم نعمته فلم يخرج جوهر الأديان السماوية جميعاً عن اطاره التقليدي من حيث التأكيد على مكارم الأخلاق التي لم تختلف أي من الأديان حولها، إضافة إلى تصحيح الانحرافات التي ربما تكون قد طرأت على جوهر العقائد بفعل اختلاف الزمن واستمرار التغير والنمو للحياة وأساليبها وأدواتها، وبالتالي لمفاهيمها وتفسيراتها التي قد تطول الجوهر الأزلي للعقيدة الربانية.
ولكن وبعد انتهاء الرسالات واكتمال الأمر الديني باكتمال رسالة الإسلام لم تتوقف عجلة الدنيا عن الدوران إلى الأمام والاتيان كل يوم بشيء جديد، في حين توقفت المفاهيم الدينية حول الحياة عند حدود مجتمع المدينة المنورة، كما تجمدت مفاهيم المسلمين عند مفاهيم الصحابة والتابعين وتفاسير وقياسات الأئمة الأربعة، لكننا مازلنا نكررها ونستعيدها ونستدل بها على صحة أو عدم صحة مسائل دنيوية مستحدثة خالصة لم يكن للدين دخل بها، وليس له منها أي موقف أو وجهة نظر.
نؤمن وندرك تماماً أن الإسلام دين كل زمان ومكان ولكن كيف له أن يكون كذلك ونحن لانزال نتناوله بعقلية من عاشوا قبل ألف عام من الزمان أو ما يزيد على ذلك؟ حيث كانت حياة المسلمين آنذاك لا تمت إلى الحياة التي نعيشها اليوم بصلة، وكانت أيضاً معطياتهم ومحاذيرهم مختلفة تمام الاختلاف عن معطياتنا ومحاذيرنا وأغراضنا من هذه الحياة المعاصرة التي كتب علينا ان نعيشها، حيث إن اختلاف المفاهيم لا ينبع من اختلاف الأزمنة وحدها، ولكن اختلاف الأمكنة في نفس الزمان يمكن أن يؤدي إليها.
كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يأخذ على واليه على الشام في حينه معاوية بن أبي سفيان اهتمامه الزائد بمظاهر البذخ والفخامة سواء في بناء القصور أو في بناء المساجد، حيث كان هذا الأخير ينفق معظم مداخيل الولاية عليها بينما كان هذا البذخ أمراً غير معتاد أو مستساغ في مجتمع المدينة المنورة حيث نعرف جميعاً قصة الخليفة عمر مع رسول ملك الفرس الذي بحث عن «ملك المسلمين» فوجده نائماً في العراء تحت ظل شجرة بدون حراسة أو حاشية، فقد كان طبيعياً ذلك الاختلاف بين رجلين، حمل كلاهما لقب «أمير المؤمنين» خلال حقبة زمنية متقاربة نظراً لاختلاف المفاهيم الآتي من تباعد الأمكنة والعقليات.
بإمكان الدين أن يخبرنا الكثير عن فضل ووجوب العدل والمساواة بين الحاكم والرعية، ولكنه لم يقترح يوماً على اتباعه عن طريقة تحقيق ذلك العدل وتلك المساواة، بينما وجدها عمر بن الخطاب باجتهاد شخصي منه وانسجاماً مع مزاج وعقلية مجتمعه المحلي تطبيقاً لفضيلة التواضع والتبسط في العيش إلى درجة النوم تحت شجرة في البرية، هذا في الوقت الذي رأى فيها واليه الداهية صاحب نظرية «شعرة معاوية» الشهيرة في الحكم مسايرة والانسجام مع عقلية المجتمع الذي يحكمه، وحفاظاً على هيبة الدولة التي يمثلها. أما الآن فمن يستطيع أن يتخيل مهما كان اتساع خياله رئيس دولة أو وزيراً فيها أو حتى سفيراً مهما كان شأن تلك الدولة من البساطة وقد استلقى للقيلولة في حديقة عامة أو ما شابه؟ وهل في الامكان ان نستخرج من القرآن الكريم أو السنة المطهرة ما يشفي الغليل إزاء ذلك؟ أم أن الدين الخاتم برمته لا علاقة له بمثل هذه الأمور؟
من المستهجن حقاً ربط بساطة الحياة وأنماطها البدائية التي كانت سائدة منذ مائة وخمسين عقداً في مجتمع يعاني الفقر وقلة الموارد في غياب دولة مركزية تعمل على وضع برامج للتنمية والبناء بالدين، حتى ولو كان هذا الدين هو الإسلام وحتى لو كان نبي الإسلام هو رأس تلك الدولة.
لقد شاهدنا بأعيننا ما أرادت له الدولة الإسلامية المعاصرة أن يكون نموذجاً للمنظور الذي اعتقدت انه ديني عندما قامت في أفغانستان دولة طالبان، حيث أغلقت مدارس البنات وأجبرت الرجال على اطلاق اللحى وألزمت الجميع بارتداء زي معين رأت انها دون غيرها ملابس المسلمين التي لا ينبغي لهم ارتداء سواها، وهذه في الحقيقة احدى الصور الظلامية المضحكة المبكية عندما نتخيل أن استمرار نزول الوحي لما يقرب من ربع قرن وما واكبه من معاناة وصبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه وتحملهم الظلم والاضطهاد في سبيل ما يؤمنون به لم يكن إلا من أجل توحيد الأزياء شكلاً ولوناً وتنميط الهيئة والممارسات اليومية!
في كتابه الشهير "فقه البداوة" حكى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مرة أن دعاة السلفية في السعودية قد لاموه بل وحتى كفره بعضهم على إطالة ثوبه وحلق لحيته وتناول طعامه بالملعقة التي عدوها من بدع الكفار، وذلك بحجة أن هذا مخالف لما كان عليهالنبي والسلف، فما كان منه إلا أن رد عليهم «وإذا كانت اللحية والثوب هي هيئة الرسول وأصحابه فماذا كانت هيئة أبو جهل وأصحابه إذن؟».
يذكر بعض المهتمين بالتاريخ كيف أن جدلاً عظيماً كان قد قام في أروقة الجامع الأزهر عندما هم القائمون عليه بإدخال الكهرباء إليه للاستعاضة بها عن الانارة عن مصابيح الزيت التقليدية وكيف رفض كثيرون من المشايخ وقتها وبشدة هذا الأمر، باعتباره بدعة محدثة لا أصل لها من الدين. واستمر الجدل فترة ثم خفت تدريجياً حتى صار استذكاره الآن مدعاة للضحك لا أكثر بعد أن غزت الكهرباء كل مساجد العالم.
ليس كل قديم قيماً، وليس كل حديث بدعة، وليس مفيداً أن نطرح كل ما يطرأ على حياتنا على استفتاء بين السلف الذي لا نريد أن تراه إلا صالحاً لأخذ موافقتهم عليه، بل أكثر من ذلك فلو نظر كل إنسان إلى الحياة بمنظور أبيه جده، واتخذه له قاعدة ونهجاً، لما كان لهذه البشرية أن تتقدم شبراً إلى الأمام. وإذا كان الدين هو سبيلنا إلى الطمأنينة والسكينة والسلام الأبدي في الفردوس، فإن من يسعد حقاً هو من ينجح في جمع خير الدارين الدنيا والآخرة.
الدنيا ليست كلها ديناً!
وليس أدل على هذا مما كان من الرسول عليه الصلاة والسلام من نهي أهل المدينة عن تأبير النخيل، والتأبير هو ما نسميه اليوم تلقيح النخل من أجل الإثمار حيث نهى النبي في أحد الأعوام عن تلقيح النخيل، ربما اعتمادا على حسن الظن بالقدر، فرضخ أهل المدينة لذلك اتباعاً لتعليمات النبي، رغم ما لديهم من خبرة في الزراعة في ذلك المجتمع الزراعي العريق، فجاء المحصول في تلك السنة ضعيفاً في المقدار والنوعية حتى بدأ الناس يتساءلون عن السبب في ذلك فكان الجواب أنهم لم يقوموا بتأبير النخيل وهذا ما سبب ضعف المحصول. فما كان من النبي الكريم إلا أن تراجع وقتها عن رأيه قائلاً بصريح العبارة «أنتم أدرى بشؤون دنياكم..!» هكذا ولا يخجلنا قولها، أدرك النبي الكريم خطأ ما ذهب إليه فتراجع عنه على الفور.. واسمعوا وعوا يا معشر المكابرين!
بالقياس على ذلك فإن الأديان تقصر القول على كيف تكون العقائد وكيف يكتمل بناء الأخلاق ولا تصف لنا أبداً كيف نفعل ذلك. تأمرنا بالاحتشام وغض البصر دون أن تفرض عصابة على الأعين أو ترهننا بزي معين، ناهيك طبعاً عن اتخاذ أجساد النساء مرتكزاً للمعتقد والسلوك. فلكل مجتمع خصائصه ولكل منا دنياه وكل منا أدرى بشؤونها من غيره، فعندما يأمرنا الدين بآداب الطريق لا يخبرنا كيف ننظم المرور وكيف تكون قوانين السير وأولوياته، وعندما يخبرنا بأن (لجسدك عليك حقاً) فإنه لا يخبرنا عن كيف نراعي أجسادنا بالغذاء الصحي والعلاجات الناجعة للأمراض ولا عن فضائل ممارسة الرياضة، ولا شيئ عن طرق بناء المستشفيات وإدارتها ولا عن أنظمة التأمينات الصحية وقواعد الرعاية الأولية، ولا يخوض طبعاً في موضوعات لم ينزل الوحي أو يتطرق إليها كالجراحة والتخدير وما إلى ذلك رغم كل ما يقال عن الطب النبوي وفضل وبركة أطعمة معينة دون غيرها.
لا يمكن لعاقل أن يسقط دور الدين من الحياة أو ينكر دوره الأكبر في تشكيل شخصية الفرد وثقافته، ولكن دور الحضارة الإنسانية في خدمة الدين هو أكبر من الدور الديني في خدمة الحضارة، لأن المضمون المعرفي للإنسان بمختلف جوانبه هو أكثر تأثيراً من دور الدين الذي يعنى أساساً بالجوانب الروحية والأخلاقية للفرد أكثر مما يعنى بتنظيم الاستراتيجية العامة للحياة الدنيوية، والتي تركها لكل مجتمع أن يقيمها بما يناسب الزمان والمكان الذي وجد فيه، وإلا فلن يكون أي دين صالحاً خارج زمانه ومكانه، ولكل من يرى غير ذلك أن يتفضل بالتصحيح وله خالص الشكر والمودة!.
وكل عام وأنتم بخير


www.deyaralnagab.com