logo
عن المئذنة السويسرية... ووثيقة القدس الأوروبية!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 09.12.2009

ثمة مستويان من التحليل والنقد يجب الفصل بينهما فيما خص مسألة التصويت الشعبي على حظر بناء مآذن في سويسرا. المستوى الأول ينطلق من القيم والمفاهيم الأوروبية الحديثة تجاه مسائل التعددية الدينية والثقافية، والمستوى الثاني ينطلق من الممارسة والواقع العربي والإسلامي تجاه الأديان الأخرى (... الواقع وليس المبادىء النظرية المتسامحة). انطلاقا من المستوى الأول يقدم التوجه السويسري الجديد خيانة بالغة لكل قيم الحداثة والتعددية والتسامح المُعاشة على الأقل في الفضاء الأوروبي نفسه. وهوتوجه قاده حزب يميني عنصري استغل الفوبيا من الإسلام المنتشرة في الغرب وفاقم من تخوفاتها ونشر الذعر في أوساط السويسريين وكأن المسلمين يحاصرون بلدهم. وفي التوجه الجديد خيانة أيضا لقيم العلمانية المُستنيرة التي تقف على الحياد من الأديان وممارسة الناس لها، طالما توافقت تلك الأديان بدورها على الصفقة التاريخية الحداثية بتحييد نفسها عن السياسة. لكن الشيء المهم أيضا هوأن الحكومة السويسرية هي أول من عارض هذا التوجه، وأنها مع جهات أخرى في أوروبا قد ترفعه إلى المحكمة الأوروبية لرفضه. والمهم أيضا هوأن أقسى نقد إزاء الحشد اليميني وراء قرار المنع يجيء أيضا من قلب القارة الأوروبية ومن منظماتها المدافعة عن حقوق الإنسان بما فيها حق التدين.
أما الانطلاق من المستوى الثاني للتحليل، وهومستوى الممارسة العربية والإسلامية لقيم التعددية الدينية والثقافية، فإنه يقودنا إلى نتيجة مريرة وهي أن التوجه السويسري مُنسجم مع ما هوسائد في أغلب، إن لم نقل كل البلدان العربية والإسلامية تجاه الأديان الأخرى. في سويسرا وقف حزب يميني وراء الحملة ضد بناء المآذن، فيما وقفت الحكومة نفسها وبقية الأحزاب في صف المسلمين وفي حقهم في بناء مساجدهم بالكيفية التي يرون. في كثير من البلدن العربية والخليجية على وجه التحديد تقف الدولة نفسها على رأس القائمة الطويلة للمعارضين لبناء كنائس أومعابد لأتباع الديانات الأخرى. والنتيجة الطبيعية لهذا التحالف الرسمي وغير الرسمي المُسمم للأجواء بكل ما هومعادٍ للأديان الأخرى، فإن أي استفتاء يجري في معظم العواصم العربية بشأن بناء كنيسة، أوكنيس، أومعبد سوف تكون نتيجته المعارضة القوية وبأغلبيات كاسحة. على ذلك فإن توجيه النقد الشديد للتوجه السويسري مشروع ومقبول من منطلق أوروبي، وهوغير مشروع وغير مقبول من منطلق عربي وإسلامي راهن. في أكثر من بلد عربي هناك إجراءات بالغة التعقيد تواجه عملية بناء أي كنيسة مسيحية أوكنيس يهودي، وهي معابد الأديان التوحيدية، ناهيك عن بناء معابد بوذية أوهندوسية أوسيخية، وهوالأمر شبه المستحيل. الذين يتهمون أوروبا بالعنصرية تجاه المسلمين، عليهم أيضا أن يتأملوا في ممارساتهم تجاه الآخرين ويتحلوا بالشجاعة المطلوبة لوصفها بالوصف الذي تستحقه.
القضية الأكثر أهمية ألف مرة من المأذنة السويسرية ولا تلقى اهتماماً يتجاوز الواحد بالألف من الاهتمام بقضية المأذنة، خاصة في منتديات وإعلام الإسلاميين الذي يتصايح على ما يواجهه الإسلام في أوروبا، هي الوثيقة السويدية المطروحة على الاتحاد الأوروبي بشأن الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للفلسطينيين، وبشأن عدم الاعتراف بأي إجراءات إسرائيلية تستهدف خلق وقائع جديدة في القدس وفي الضفة الغربية. الوثيقة قادت إلى سعار إسرائيلي واسع النطاق وتهديدات متنوعة، لكن الوعي العربي والإسلاموي المندثر في الجزئيات لا يهتم بها، ولا يفكر كيف يقف إلى جانب الجهد الأوروبي الذي يقطع بشجاعة هذه المرة مع التلكؤ والانحياز الأمريكي الأعمى لإسرائيل. الوثيقة الأوروبية التي إن تم اعتمادها سيكون لها أثر انعطافي حقيقي في التسيس الدولي تجاه إسرائيل وتحتاج إلى دعم عربي وإسلامي قوي، وهي لا تحتاج من العرب والمسلمين إثارة معارك جانبية تستنزف رأس المال التضامني المتصاعد مع فلسطين والقضية الفلسطينية. في الوثيقة، وللسخرية المريرة، يدعوالاتحاد الأوروبي الدول العربية لزيادة دعم الفلسطينين والوقوف معهم سياسيا ودبلوسياً!
معارك "صورة الإسلام والمسلمين" في الغرب تُخاض دوما بالطريقة الخطأ، بالانفعال والعاطفة واللاعقلانية التي تقود إلى مزيد من الخسائر. السبب الأهم هوضعف المعرفة والوعي بالواقع الأوروبي والافتراض الضمني بأنه يشتغل كما يشتغل الواقع العربي والإسلامي. في "معركة" الصور الكرتونية الدنماركية صب العرب والمسلمون جام غضبهم على الدنمارك كدولة وعلى الحكومة كصاحبة قرار وطالبوها بالاعتذار عما اقترفه رسام كاريكاتير في صحيفة مستقلة. لم يُقبل رفض وإدانة الحكومة لتلك الرسومات ومحاولة شرحها أن الاعتذار يقع خارج السياق المنطقي للأحداث ذلك أنها، أي الحكومة، ليست من ارتكب "الجرم" المعني. لم يفهم كثير من العرب والمسلمين الذي يعيشون في أنظمة سياسية أبوية تتحكم الحكومات فيها بكيفيات تنفس الناس فيها، وتعتقل أي صحافي أورسام كيفما اتفق، أن الوضع يختلف في أوروبا حيث لا تملك الحكومات لجم الإعلام الحر.
في الحالة السويسرية الراهنة المشكلة أكثر تعقيداً. فقرار حظر المآذن جاء عبر استفتاء شعبي عبر حملات تحريض ودعاية سلبية من قبل حزب يميني عنصري. معنى ذلك أن هناك معضلة حقيقية في صورة الإسلام والمسلمين في أوساط الرأي العام السويسري، والأوروبي بصورة إجمالية. لماذا وصلت هذه الصورة إلى السوء الذي يدفع غالبية الجمهور للتصويت مع قرار منع المآذن هوالسؤال المهم الذي يجب مواجهته. المسؤولية الأوروبية في تدهور هذه الصورة تتمثل في الإعلام الشعبوي الذي يبحث عن الإثارة على حساب الموضوعية والتغطية الرصينة، ويركز على الجماعات الهامشية لكن المتطرفة من المسلمين، بحيث تبدووكأنها تمثل كل المسلمين في القارة الأوروبية. كما يتمثل جزء آخر من تلك المسؤولية في تيارات اليمين العنصري التي تستثمر ذلك الإعلام التحريضي وتنفخ فيه. والجزء الثالث من تلك المسؤولية يقع على عاتق العرب والمسلمين أنفسهم. إذ ليس هناك جهد واسع وحقيقي صار مطلوبا إلى درجة فائقة بعد إرهاب الحادي عشر من سبتمبر وإرهاب قطارات مدريد ولندن للتأكيد على تنصل الغالبية الكاسحة من المسلمين من ذلك الإرهاب. عوض أن تدفع تلك الجرائم الشرائح الأعرض من الجاليات العربية والإسلامية للتحرك بفاعلية من أجل الدفاع عن صورتها وعن مصالحها، انكفأت داخليا ولم تمارس سوى الصمت. وهوالصمت الذي فسره المغرضون على أنه تواطؤ خفي أواستحسان مبطن لذلك الإجرام. ما زال الصمت قائماً، وما زالت الفاعلية غائبة، ومن دون أن يتغيرا فإن التدهور السويسري سوف نراه قريبا في دول أخرى مع الأسف الشديد.


www.deyaralnagab.com