صــهـر الــوعـي أو في إعادة تعريف التعذيب!!..[الجزء الاول]
بقلم : وليد دقه* ... 09.12.2009
*مقدمة...
ليس هناك أشدّ وأقسى من أن يعيش الإنسان إحساسًا بالقهر والعذاب دون أن يكون قادرًا على وصفه وتحديد سببه ومصدره. إنه الشعور بالعجز وفقدان الكرامة الإنسانية عندما يجتمع اللايقين بالقهر، فيبدو لك بأنه ليس العالم وحده قد تخلى عنك، وإنما لغتك قد خانتك من أن تصف عذابك وأن تعرّفه، أو حتى أن تقول آخ.. آخ مفهومة ومدركة من قبل الآخر الحرّ. أو أن تكون قادرة على اختراق الضباب الإعلامي والسياسي لتحتل قضيتك كأسير مكانة معقولة على أجندات السياسيين والإعلاميين، وأن تحظى باهتمام لجان حقوق الإنسان. فتلجأ حينًا لهذا الغرض، وللضرورات الإعلامية إلى تبسيط المركب في عذابك، فيبدو عذابًا بسيطًا لا يستحق الإهتمام. أو تضطر حينًا آخر للتهويل والتضخيم، فيكون من اسّهل على سجانك أن يفند ادعاءاتك الكاذبة. ليكرس عزلك عن العالم مجددًا لتواصل عذابك وحيدًا فتقف أمام خيارين؛ إما أن تكف عن كونك ذاتا وتتحول كليًا إلى موضوع لسجانك، وإما أن تحوّل ذاتك لموضوع بحث لإعادة تعريف التعذيب وأسبابه. الأمر الذي لن يكون بالمهمة السهلة على الإطلاق. فأن تكون الذات الباحثة وموضوع البحث في نفس الآن يعني أن تكون المُعذَّب والذي يُبلغ عن التعذيب.. أن تكون المشهد والمشاهد، أن تكون التفاصيل والتجريد معًا.
يشعر الأسير الفلسطيني في سجون الإحتلال الإسرائيلي بحالة من العجز النابعة من صعوبة توصيف حالة القمع التي يعيشها منذ بداية الإنتفاضة الحالية. فقد أصبح القمع والتعذيب مركبًا وحداثويًا يتماشى مع خطاب حقوق الإنسان، حيث يحتاج الأخير ومؤسساته لجهد خاص لإثبات بعض الخروقات التي غالبًا ما تقدم من جانب القضاء والإعلام الإسرائيلي على أنها الإستثناء لقاعدة الإلتزام بحقوق الإنسان والأسرى. فيبدو كشفًا للتغطية، وشفافية لغرض التعتيم وحقائق لإخفاء الحقيقة.
إن القمع الحداثوي مُقنع مخفي ويقدم على أنه استجابة لحقوق الإنسان، إنه قمع لا صورة له، ولا يمكن تحديده بمشهد. إنه مجموعة من مئات الإجراءات الصغيرة والمنفردة، وآلاف التفاصيل التي لا يمكن أن تدلّ منفردة على أنها أدوات للتعذيب. إلا إذا أدركنا الإطار الكلي والمنطق الذي يقف من وراء هذه المنظومة. إنه تمامًا كالإستغلال في اقتصاديات السوق الحرّ في ظلّ العولمة، الذي يقدم دومًا على أنه ضرورة لرفع معدلات النمو الإقتصادي، إنه كالإستغلال الذي لا وجه له أو وطن أو عنوان محدّد لمستغلك. حيث تمتد أذرع احتكاره كالأخطبوط إلى كل زاوية من زوايا العالم، وإلى كل تفصيل من تفاصيل حياتك. فأنت المُستغل عاملاً أو مستهلكًا قد تصبح وفي نفس الآن مالكًا لأسهم الإحتكار الذي يستغلك.. هكذا بحيث تضيع الفواصل والحدود بين المستغِل والمستَغَل. فيغدو فهم الإستغلال أو تعريفه مهمة صعبة تكاد تكون مستحيلة في نظم الإنتاج الحديثة وسوق العولمة الحرّ.
لا يشبه القمع والتعذيب في السجون الإسرائيلية حالات القمع والتعذيب التي تصفها أدبيات السجون في العالم. ليس هناك حرمان فعلي من الطعام أو الدواء، ولن تجدوا من هم محرومون من الشمس ومدفونون تحت الأرض. لا يكبل الأسرى كما في الروايات بسلاسل مشدودة لكتل حديدية طوال النهار. فلم يعد الجسد الأسير في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدف مباشرة، وإنما المستهدف هو الروح والعقل. لا نواجه هنا ما واجهه ووصفه فوتشيك في ظل الفاشية في كتابه "تحت أعواد المشانق"، وليس الحديث هنا عن ما يشبه سجن "طوزمارت" في رواية "تلك القمة الباهرة" للطاهر بن جلود. ولن تجدوا وصفًا يشبه ما وصفته مليكة أفقير للسجون المغربية. نحن هنا لا في سجن "ابو زعبل" ولا حتى "أبو غريب" أو "غوانتنامو" من حيث شروط الحياة. ففي كل هذه السجون تعرف معذبك وشكل التعذيب وأدواته المستخدمة. وأنت تملك يقينًا على شكل تعذيب حسّي مباشر. لكنك في السجون الإسرائيلية تواجه تعذيبًا أشد وطأة "بحضاريته" يحوّل حواسك وعقلك لأدوات تعذيب يومي. فيأتيك هادئًا متسللاً لا يستخدم في الغالب هراوة ولا يقيم ضجة. إنه يعيش معك رفيق الزنزانة والزمن والباحة الشمسية والوفرة المادية النسبية.
إن السجون كنموذج، وإن كانت هي موضوع هذه الدراسة، إلاّ أن حالة فقدان القدرة على تفسير الواقع والإحساس بالعجز وفقدان الحيلة لا تقتصر عليها، ولا هي من نصيب الأسرى وحدهم، وإنما هي حالة فلسطينية عامة. حيث تتطابق ظروف المواطن الفلسطيني مع ظروف الأسرى، ليس في شكل القمع فحسب.. أو حيث يحتجز المواطنون في معازل جغرافية منفردة، كما هم الأسرى معزولون عن بعضهم البعض في أقسام وعنابر لا صلة بينها إلا بإرادة السجـّان، وإنما هناك تشابه جوهري يتصل بالهدف الذي يريد أسراهم تحقيقه في كلا الحالتين.
والهدف الذي ندعي بأنه يريد تحقيقه هو إعادة صياغة البشر وفق رؤيا اسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون. وبالتالي فإن دراسة حياة الأسر المصغرة عن حياة المواطنين في الأراضي المحتلة يمكنها تبسيط الصورة وإيضاحها لفهم المشهد الفلسطيني برمته.
لا ينتهي الشبه بين السجن الصغير والسجن الكبير فلسطينيًا عند هذا الحدّ. بل هناك تشابه بالقراءة الخاطئة والمعالجات التقليدية العاجزة عن النهوض بالقضية الفلسطينية كما هو النهوض بقضية الأسرى. إن النماذج الحاضرة في أدبيات القوى السياسية الفلسطينية في مواجهة الإحتلال، أو قراءة سياساته، ما زالت نمطية تُستمد شكلاً ومضمونًا من أدبيات حركات التحرر وتجاربها التي عقبت الحرب العالمية الثانية، وتشكلت في ظل الحرب الباردة، وفي مرحلة حضارية مختلفة عما نواجه اليوم. فكما أن أدب السجون لا يعكس واقعها اليوم، فإن الأدبيات السياسية وفرضياتها عاجزة عن معالجة الواقع السياسي. وبينما يواجه الفلسطيني منذ أكثر من 15 عامًا، واقعًا يستمد المُحتل أفكاره ونظرياته وأدواته القمعية من واقع حضاري ما بعد حداثوي، أو كما يسميه بويمن "الحداثة السائلة" [1]- فإن القوى السياسية الفلسطينية تبدو عاجزة عن تشخيص واقعها، وتقديم تفسير وحلول قادرة على أن تستنهض الجماهير، أو على الأقل واقعها، وتقديم تفسير وحلول قادرة أن تستنهض الجماهير، أو على الأقل أن تمنحها الإحساس باليقين، حتى وإن بدا هذا اليقين على شكل تفسير لكوارثها.
إن الأدوات والمفاهيم الفلسطينية في التحرر تخلفت عن الواقع فغدت بحدّ ذاتها أدواتا للقمع والتعذيب. وهي تقودنا رغم التضحيات المرة تلو الأخرى لطريق مسدود. إننا أشبه بمن يواجه حربًا نووية بسيف فما نراه في الواقع أو ما يبدو لنا أننا نراه جرّاء هذا العجز، هو أيضًا أشبه بحرب من كتب التاريخ كغزوة "الخندق" أو غزوة "أحد" فتصبح المسافة بين أدوات تغييرنا للواقع والواقع ذاته شاسعة، بحجم المسافة بين التاريخ والمستقبل.
هكذا هو حال الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية موضوع دراستنا. يَشـْكون حالا غير قائم، وما هو قائم غير قادرين على وصفه. إنهم يواجهون تعذيبًا ليس بمقدورهم تحديد شكله ومصدره. وهذه الأوراق لا ندعي بأننا نقدم من خلالها تفسيرًا شاملاً، أو تعريفًا وافيًا للتعذيب. بل هي ليست أكثر من صرخة تحاول قول افعلوا شيئًا قبل فوات الأوان. فمهمة كشف ما يجري في السجون وتوضيحه للرأي العام في إطار تعريف جديد للتعذيب، هي مهمة لجان حقوق الإنسان ولجان الأسرى. لكنها قبل كل شيء مهمة الفصائل الوطنية والقوى السياسية الفلسطينية. فالقضية المطروحة ليست قضية حقوقية أو إنسانية وإنما سياسية بالدرجة الأولى.
إن هذه الأوراق لا تدعي بأنها بحث علمي، فقد كتبت في السجن حيث لا مصادر جدية يمكن الإعتماد عليها، واعتمادنا أكثر على الذاكرة. على الأقل في تناولنا لما يجري في المعازل التي بنتها إسرائيل. خصوصًا وأننا محتجزون ومعزولون عن العالم ما يقارب ربع قرن. وذلك وبشكل أساسي لتبيان ما يجري في السجون الصغيرة على أنه ليس مجرد احتجاز وعزل لأسرى يشكلون خطرًا أمنيًا على إسرائيل. وإنما هو جزء من برنامج شامل ومخطط علمي ومدروس يهدف إعادة صهر الوعي الفلسطيني.
إن حالة نجاح أو فشل هذا المخطط مرهونة بالدرجة الأولى بقدرتنا على كشفه والوقوف على تفاصيله المحرجة في كثير من الأحيان، بعيدًا عن محاباة الذات والكذب عليها. فالمطلوب وضوح وصراحة، وبحث علمي وليس خطابًا حماسيًا يشيد بالأسرى ونضالاتهم وتضحياتهم، بحث يجيب على الأسئلة والتساؤلات التي نأمل أن نتمكن من إثارتها في هذه الأوراق.
**إبادة سياسية..أقل من شعب.. وفق الإبادة المادية
ذهل الوفد الجنوب أفريقي الذي زار فلسطين[2]- من حجم وطبيعة الإجراءات الإسرائيلية ذات الطبيعة الشمولية التي فرضتها على الفلسطينيين، والتي وصفوها بأنها إجراءات فاقت إلى حدّ بعيد ما قامت به حكومات جنوب أفريقيا في مرحلة الأبرتهايد. فلم يكن هناك وفي أسوأ مراحل الفصل العنصري شوارع للسود وأخرى للبيض، كما هو حاصل في الأراضي المحتلة حيث شوارع للعرب وأخرى لليهود. ولم يكن الفصل فصلاً كاملاً ومطلبًا إلى هذا الحدّ الذي أقامه الإحتلال. فقد ظلت على الدوام مناطق معينة يلتقي بها البيض والسود. وما زاد هذا الوفد الجنوب أفريقي ذهولاً وحيرة، وجعل مصطلح "الفصل العنصري" غير قادر على توصيف الحالة الفلسطينية تحت الإحتلال وتعريفها، هي الحواجز التي تفصل ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، وإنما بين الفلسطينيين أنفسهم. فإسرائيل كما هو معروف قسمت الأراضي المحتلة وقطعتها لمعازل صغيرة حوّلت حياة السكـّان إلى جحيم.
إن هذه الدراسة تدعي بأن اختلاف الهدف النهائي الذي تسعى حكومات إسرائيل لتحقيقه منذ السنة الثانية للإنتفاضة، عما أرادت حكومات جنوب أفريقيا تحقيقه عبر سياسة الفصل العنصري. هو ما يجعل الإجراءات الإسرائيلية بهذه الشمولية والعمق والسيطرة الكاملة على حياة المواطنين الفلسطينيين. فالهدف ليس الفصل العنصري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإنما العنصرية هي أداة لتحقيق الهدف الأساسي الذي هو إعادة صهر الوعي الفلسطيني بما يتسق ومشروع الدولة العبرية. إن العنصرية في هذا السياق ليست عنصرية إسرائيلية شعبوية منفلتة وغير عاقلة كالعنصرية التي يمثلها المستوطنون، وإنما عنصرية منظمة تقف وراءها كامل المؤسسة الإسرائيلية بمنطقها وتبريرها القانوني والأخلاقي.
لقد أدركت إسرائيل أن المشكلة الحقيقية ليست مع القيادة الرسمية والمفاوض الفلسطيني، وإنما مع الشعب الفلسطيني الذي يرفض سقف الرؤيا الإسرائيلية للحل، ويبدي استعدادية للمقاومة مما يجعل رافد الفصائل المقاومة من المقاومين لا ينضب، ويحوّل أي إمكانية للتسوية مع المفاوض الفلسطيني لإمكانية مستحيلة التطبيق.
لقد صرّح قائد الأركان الإسرائيلي السابق "بوجي يعلون" أثناء سنوات خدمته العسكرية في الإنتفاضة، وفي أكثر من مناسبة وعلى نحو واضح وصريح، بأنه لا بد من "إعادة صهر الوعي الفلسطيني" [3]- وأن الخطط العسكرية لجيشه تستهدف تحقيق ذلك.
وعليه فإن تقسيم الأراضي المحتلة إلى معازل نقرأه في هذا السياق الإسرائيلي. سياق خطة صهر الوعي. وإن كان يقدم التقسيم كإجراء أمني يهدف إلى منع تنقل المسلحين، وإحباط صلة تحقق بين المناطق الفلسطينية المختلفة نقلاً للمعدات والخبرات القتالية، أو الوصول لقلب اسرائيل. وهي تستهدف فيما تستهدف تحقيق ذلك فعلاً. لكنها بالأساس أداة عنصرية من أدوات صهر الوعي بصفته الهدف العام الذي حدده قائد الأركان يعلون لجيشه.
لقد عنت المؤسسة الإسرائيلية في البداية بعملية "صهر الوعي"، هو جعل فكرة المقاومة فكرة مكلفة عبر هدم البيوت والقتل والتدمير الواسع. وقد بات من الواضح تمامًا اليوم بأن حجم القتل والهدم والتخريب، للمنشآت والمزارع، الذي كلفت بتنفيذه المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى حجم الإعتقالات الواسع في صفوف المواطنين الفلسطينيين، يفوق حاجات إسرائيل الأمنية. فقد أدرك القادة الإسرائيليون أن استخدام القوة العسكرية لوحدها، وفي ظل غياب أفق سياسي حقيقي سيجنون ثمارًا ونتائج عكسية. فالموت بالعشرات يوميًا لمواطنين عزل، جعل الموت أسهل من مراقبة مشهد الموت على مدار الساعة كل يوم. لقد دفع هذا الموت العشرات من الشباب يوميًا للإنضمام كاستشهاديين لصفوف المقاومة. ووجدوا به خلاصًا يحمل العزة والكرامة[4].
إن أي مقاومة بحاجة لبنية تحتية مادية ومعنوية، والجيش الإسرائيلي بإجراءاته التي استهدفت البنية التحتية المادية للمقاومة بغية الوصول لنقطة "صهر الوعي". وعلى نحو أدق إعادة تقييم الأدوات والسبل المستخدمة لوصول لهذا الهدف.
فإذا كان استهداف البنية التحتية المادية للمقاومة غير كاف لإحداث اختراق في الوعي الجماهيري الفلسطيني، عبر مراكمة كتلة حاسمة في فترة زمنية قصيرة، من قتل ودمار وإغراق المشهد بالدم، فإنه بدا من الضروري إضافة مركبات جديدة لعملية الإستهداف التي يعتقدون بأنها كفيلة لإحداث الإختراق المأمول لـ "صهر الوعي الفلسطيني".
إن المركبات الجديدة التي استهدفت هي عناصر البنى التحتية المعنوية للمقاومة. وعندما نتحدث عن "البنية التحتية المعنوية". نقصد بشكل خاص مجموعة القيم الجامعة التي تجسد مقولة الشعب الواحد في الحياة اليومية. إنه لمن غير الممكن بل والمستحيل أيضًا أن توحد مجموعة من البشر طاقاتها وإمكاناتها بل وأن تصبح مجموعة، دون أن يكون لها هدف أو مجموعة من الأهداف المشتركة لغالبية أفرادها. وإنه لمن المستحيل تمامًا أن تتشكل مثل هذه الأهداف دون أن تكون هناك قيم جامعة تمثل رابطًا معنويًا وقيميًا ينظم حياة أعضاء هذه المجموعة والتي من شأنها أن تحولهم من أفراد – إرادات إلى مجموعة شعب.
لقد مثل التعاضد والتكافل الإجتماعي الفلسطيني بين جميع الفئات والطبقات والمناطق الجغرافية، الذي تجلى بوضوح أكبر أثناء الإنتفاضة الأولى، التجسيد الحي والمادي المباشر لمقولة الشعب الواحد والمصير والآمال والأهداف الواحدة. وعندما نشير إلى الإستهداف الإسرائيلي للبنية التحتية المعنوية للفلسطينيين بهدف صهر وعيهم، إنما نقصد تمامًا استهداف هذه التجسيدات اليومية الصغيرة منها والكبيرة، ومجموعة الأنشطة والمفاعيل المنظمة والعفوية، الفردية والجماعية، المتناثرة والمركزة، والتي تعبر عن تركيبة نفسية ومعنوية تجعل الصمود تحت بطش الآلة العسكرية الإسرائيلية أمرًا ممكنًا، بل وجعلت ليس الصمود السلبي المتلقي ممكنًا فقط وإنما أيضًا الصمود الإيجابي المبادر.
إننا نميل للاعتقاد في هذه الدراسة بأن إسرائيل ومنذ عام 2004 أنجزت نظامًا علميًا شاملاً وخطيرًا، يعتمد أحدث النظريات في الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات بغية صهر الوعي الفلسطيني بتفكيك قيمه الجامعة. إننا أمام مجموعة من النظم والمستويات المتناغمة، السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يمثل "صهر الوعي" واحدًا من أهم أهدافها. فيما يمثل هذا النظام الإسرائيلي بكليته حالة من حالات الإبادة السياسية – بوليتي سايد). فرغم إدراكنا للإشكالية التي قد يثيرها مثل هذا الإستخدام في تعريف الحالة الفلسطينية كإبادة سياسية، إلا أننا نعتقد بأن النظم التي وضعتها إسرائيل مخيفة بعلميتها ومنطقها العقلي وتشبه إلى حد بعيد حالات عرفت كإبادة سياسية [5]. حيث تشمل خططا وبرامج ومواقف تبدو للمراقب بأنها فوضى وارتباط وتناقض في السياسة الإسرائيلية لكنها في حقيقة الأمر فوضى منظمة تهدف إلى التالي:
1. تفكيك البنى والمؤسسات الفلسطينية الإقتصادية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني، ليس تفكيكًا كاملاً وإجهازًا كليًا وإنما إبقاؤها دون النظام وفوق الفوضى.
2. التفاوض السياسي الدائم دون توقف، وخلق الوهم بأن الحل بمتناول اليد ووشيك خلف المنعطف، وفي المقابل خلق وتثبيت الوقائع على الأرض عبر الإستيطان هكذا ليبقى الحال دون الحل وأكثر من الجمود.
3. تفكيك البنية التحتية لمقولة الشعب عبر الإجهاز على القيم الجامعة للشعب الفلسطيني لا سيما قواه وفئاته الحاملة والمدافعة عن هذه القيم كالأسرى بصفتهم الطليعة النضالية. هكذا ليغدو الشعب الفلسطيني أقل من شعب وفوق الإبادة المادية.
إن أخطر ما في هذا النظام أنه من الصعب الإحاطة به من قبل المواطن العادي والمتوسط، لا سيما وأنه نظام مقسم لمشاهد منفردة لا يرى منها المواطن إلا أجزاءً محددة. فيما يرى الإحتلال ويراقب ويحيط بكل المشهد الفلسطيني بأقل ما يمكن من الإمكانيات والزمن والتكلفة. وهذه الإحاطة الشاملة والنافذة لحياة الفلسطيني لم يكن بالإمكان تحقيقها دون التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الإتصال والمراقبة الألكترونية. ففي نظرة غير متفحصة بشكل خاص يمكن ملاحظة وبسهولة ما يعيشه الفلسطينيون من نظام شمولي وضعته إسرائيل، يشبه إلى حد بعيد ما وصفه جورج أورويل عن "الأخ الأكبر" في روايته (1948). حيث يراقب الأخ الأكبر – السلطة ليس السلوك والمواقف وإنما الآراء والأفكار التي تدور في عقول الناس. فإسرائيل تراقب المواطن الفلسطيني وتسيطر على حياته بالكامل تمامًا كـ"الأخ الأكبر". إن كان ذلك عبر الكاميرات المنتشرة في المدن، كالقدس، أو مراقبتها لكل المدن الفلسطينية عبر طائرات الإستطلاع والأقمار الإصطناعية. أو مراقبة الأثير مثل الهواتف المحمولة والفاكسات وأجهزة الكمبيوتر. الأمر الذي يمكنها عبر هذه السيطرة الشمولية التدخل في العمليات الإجتماعية والإقتصادية والتوجهات السياسية لمجتمع بأكمله. هذا بالإضافة لسيطرتها عبر الحواجز على مداخل ومخارج المدن والمحافظات. وبهذا المعنى، فإن الإبادة السياسية التي تنفذها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، هي مشروع حداثوي بالنظريات والأدوات التي تستخدمها وهو مشروع باعتقادنا لم يواجه شعب آخر في التاريخ مثيلاً له من حيث مستوى التقنية والدقة والشمول، إلا الإبادة الجماعية – المحرقة التي واجهها اليهود في الحرب العالمية الثانية على يد النازية.
على الرغم من صعوبة الإحاطة بهذا النظام، فإنه بالإمكان تبسيطه وإدراك مركباته وتعقيداته عبر إجراء بعض المقارنات بين نموذج السجون الذي سيتركز به موضوع بحثنا ودراستنا، من جهة، مع ما يجري في الأراضي المحتلة من جهة أخرى. حيث نجد تطابقًا بين إجراءات الإحتلال هناك مع ما يجري هنا في السجون الإسرائيلية التي هي المختبر الذي يتم به اختبار السياسات التي تستهدف الحالة المعنوية والإجتماعية الفلسطينية.
إن التشابه بين السجون والمعازل في الأراضي المحتلة قد يفيد في حل الإشكالية المفاهيمية في توصيف الحال الفلسطينية.. حيث توصف حينًا بالفصل العنصري وحينًا آخر بالجيتو. فيما تجاوز الواقع هذه التوصيفات، وكثيرًا ما ترتبك القرارات التي قد تستند إليها. فقد تصف بعض أجزاء المشهد الفلسطيني لكنها عاجزة عن شمل كل المشهد والواقع الفلسطيني. فالفصل بين الفلسطيني والفلسطيني مثلاً لا يمكننا توصيفه على أنه فصل عنصري. كما أن معازل الفلسطينيين ليست جيتوات مؤقتة ومحطات يُجمعون فيها ما قبل "الحل النهائي"[6]، وإنما هي الحل النهائي، والمستهدف في هذا الحل ليس الجسد في إبادة جماعية، وإنما، إن صح التعبير، الروح في إبادة ثقافية وحضارية. وفي مجمل الأحوال لم يعد مفهوم "الإحتلال" كافيًا ولا حتى مصطلح "الإحتلال الإستيطاني"، لتوصيف شمولية وعمق الحالة بعد أوسلو تحديدًا.
إن مجمل هذه التوصيفات تؤدي إلى سياسة وتكشف عن أهداف إسرائيلية أكبر من حاصل جمعها. إننا أمام إبادة سياسية، وهدف هذه الدراسة تبيان مركباتها عبر نموذج السجون، وتفكيك عناصرها ومن ثم إعادة تركيبها عبر إطار نظري يوفر لنا الإمكانية لكشف النظام والإنسجام بيد مجمل تفاصيل السياسة الإسرائيلية.
إن ما يوفر لنا مثل هذا الإطار النظري، هو ما كتبه ميشيل فوكو في كتابه –المحاسبة والمعاقبة – ولادة السجن، حول المشتمل Panapticon نظام السجن الدائري لجرمي بنتهام[7]، وما طوره زيجمونت بويمن من فهم أكثر عمقًا بما يتناسب ومرحلة ما بعد الحداثة. كما أن ما كتبته نعمي كلاين بشأن عقيدة الصدمة يوفر لنا صورة واضحة بما يتصل بعمليات غسيل الدماغ الجماعية ومصدرها العلمي والنظري واستخداماتها العملية في تثبيت السياسات والنظم الإقتصادية بما يخدم المصالح الأمريكية في بعض الدول التي مرت بتجربة الصدمة.
وقبل أن نتركز في السجون كنموذج لعملية غسيل الدماغ أو زعزعة القيم الوطنية الجامعة التي تمثل مقولة الشعب في أوساط الأسرى الفلسطينيين، كما في أوساط المجتمع الفلسطيني بكامله – فإننا نعرض تحت عنوانين تعريفًا سريعًا للمشتمل كما يقدمه فوكو، وعقيدة الصدمة كما تعرضها نعمي كلاين، كأداتين أساسيتين سنستخدمهما في تحليلنا لما يحدث في السجون الإسرائيلية من أشكال تعذيب حديثة.
فما هو المشتمل؟ كيف يطبق في السجون الإسرائيلية كأداة سيطرة؟ وما هي عقيدة الصدمة.. وأين تبدأ الصدمة في حياة الفلسطينيين وأين لم تنته؟
**المشتمل – Panopticon:
تأتي أهمية استخدام هذا النموذج من السجون فيما قدمه ميشيل فوكو من تطوير ودراسة لفهم القوة الحديثة واستخدامها في المراقبة والسيطرة.
فإذا كان ما أقامته إسرائيل من معازل للفلسطينيين في الأراضي المحتلة هو عبارة عن سجون كبيرة، وما تحاول تطبيقه بحق الأسرى داخل السجون الصغيرة هو استكمال لنفس السياسة هناك، فإنه من الطبيعي والأجدى دراستها أولاً بمثل هذه الأدوات النظرية. فالمشتمل هو الصورة الهندسية البنائية لهذا النموذج من السيطرة والمراقبة التي تقوم بها إسرائيل ليس بغرض الأمن ومتطلباته فحسب، وإنما لإعادة صياغة البشر عبر السيطرة الكلية عليهم وعلى تفاصيل حياتهم ومراقبتهم، أو خلق وهم المراقبة الدائم لدى كل مواطن فلسطيني.
يصف فوكو مشتمل بنتهام على أنه عبارة عن مبنى دائري الشكل وفي الوسط برج مراقبة، وفي داخل هذا البرج نوافذ واسعة تفتح على الوجه الداخلي للحلقة.
ويقسم البناء الجانبي إلى غرف معزولة. كل واحد منها هي بطول عرض البناء، ولكل غرفة شباكان؛ شباك من ناحية الداخل مطابق لشبابيك البرج، وشباك يطل على الخارج يتيح للنور أن يقطع الغرفة من جهة إلى جهة. عندها يكفي وضع ناظر في البرج المركزي، وفي كل غرفة يحبس مجنون أو مريض أو عامل أو محكوم، وفقًا لطبيعة المؤسسة التي بني من أجلها هذا المبنى. وبفعل النور المعاكس يمكن من البرج رؤية الظلال الصغيرة الأسيرة الموجودة في غرف الأطراف، والتي تنعكس تمامًا على الضوء. وبقدر ما توجد أقفاص، بقدر ما توجد مسارح صغيرة حيث ينفرد كل ممثل وحيدًا منفردًا تمامًا منظورًا بصورة دائمة. إن التجهيز المكشافي (البانوبتي يُعد؟؟؟ وحدات زمنية تسمح بالرؤية اللامنطقية وبالتعرف الآني وبالإجمال يقول ميشيل فوكو:
"إن هذا النظام يعكس مبدأ الزنزانة ووظائفها الثلاث.. الحبس، الحرمان من الضوء، والإخفاء. إلا أنه لا يحتفظ إلا بالوظيفة الأولى وتلغى الوظيفتان الأخريان. فالضوء القوي ونظرة المراقب تأسُر أكثر مما يأسُر الظل الذي يحمي في النهاية. إن الرؤية هي شـَرَكْ"[8]
إن ما يتيحه مثل هذا النظام بالدرجة الأولى، هو تفادي الأسرى (أو الجماهير) ككتلة بشرية واحدة عبر تقسيمهم. حيث كل واحد محبوس في مكانه بصومته يُرى من قبل الناظر وجهًا لوجه. ولكن الجدران الجانبية تمنعه من الإتصال برفاقه، إنه مرئي ولكنه لا يَرى، إنه موضوع استعلام لكنه لا يشكل أبدًا موضوعًا في الإتصال، إنه جسم وموضوع متلقي سلبي، لكنه أبدًا ليس ذاتًا فاعلة.
إن انعدام الرؤية هذه هو ضمان النظام، فلو كان الموقوفون أسرى فلا خوف من وجود مؤامرة محاولة هرب جماعية أو مشروع للمواجهة. والأثر الرئيسي للمستشرف (بانوبتيك) هو الإيحاء للمعتقلين بوجود حالة واعية ومتواصلة من الرؤية الدائمة لهمه ومراقبتهم مما يؤمن وظيفية السلطة الأوتوماتيكية، ويجعل الرقابة دائمة بمفاعيلها وتأثيرها على المعتقلين حتى ولو كانت متقطعة وغير دائمة في عملها الفعلي. بحيث لا يكون هناك ضرورة للسلطة تجسيدًا وبصورة مكتملة كي تنفذ ممارساتها. فهذا الجهاز الهندسي آلة لخلق ودعم السلطة بصورة مستقلة عن الشخص الذي يمارسها إلى درجة أن المعتقلين أنفسهم يتحولون إلى حاملي هذه السلطة التي يمارسونها على أنفسهم. لقد وضع بنتهام المبدأ القائل بأن السلطة يجب أن تكون منظورة وغير ملموسة، منظورة بأن يكون ظل البرج المركزي العالي أمام ناظري الأسرى باستمرار حيث تتم مراقبته بصورة غير ملموسة، يجب أن لا يعرف أبدًا إذا كانوا تحت النظر الآن ولكنهم يجب أن يكونوا على يقين بأنهم قد يصبحوا تحت النظر دومًا.
**عقيدة الصدمة:
في إحدى كراسات الإرشاد التي أصدرها الـ C.I.A لمحققيه والتي تتناول وسائل لانتزاع المعلومات من الأسرى أثناء التحقيق وردت الفقرة التالية: "هناك لحظة قصيرة جدًا يمر بها (الأسير) يكون أثناءها متجمد الذهن وفي حالة أشبه بالشلل النفسي. هذه الحالة تحصل نتيجة تجربة كارثية أو شبه كارثية تحطم عالم الموضوع (أي الأسير) وتقديره وفهمه لذاته في هذا العالم... محقق ذو خبرة يشخص هذا الوضع مباشرة ويعرف بأن المصدر ( أي الأسير) جاهز للتعبئة والإمتثال أكثر مما كان عليه في الماضي.[9]
إن عقيدة الصدمة التي نعرضها هنا باختصار، تحاكي هذه التجربة تمامًا وبدقة. فما يسعى التعذيب لتحقيقه بعمله على الأفراد وفي غرف التحقيق، فإن عقيدة الصدمة تسعى لتحقيقه بمقاييس جماهيرية واسعة. ففي كتابها "عقيدة الصدمة" كتبت نعمي كلاين [10] بأن من أبرز الأمثلة لفعل الصدمة على نطاق جماهيري واسع هي صدمة الحادي عشر من أيلول. والتي مثلت بالنسبة للملايين من الناس، وتحديدًا الأمريكيون، حدثـًا "حطم عالمهم المألوف"، وجعلهم مفتوحين على مرحلة من فقدان الإحساس بالمكان والزمان. وجعل الفرد عاجزا عن معرفة هويته الذاتية وبدا شديد الإرتباط والإنكفاء. الوضع الذي استغلته إدارة بوش بمهارة عالية. حيث وجد الناس أنفسهم يعيشون بما يشبه عام الصفر. وغدوا صفحة بيضاء يمكن أن تكتب عليها الإدارة الأمريكية الكلمات والمفاهيم الجديدة التي أرادتها كـ"صراع الحضارات".."محور الشرّ".. "إسلاموفاسيزم" وغيرها[11].
لم تتشكل وتتطور عقيدة الصدمة في بداية الأمر كتجربة وخطأ داخل أقبية التحقيق، وإنما بدأت كتجارب على مرضى في معهد للطب النفسي وعلى يد أكاديميين في إحدى الجامعات الأمريكية. فقد مولت في سنوات الـ50 وكالة الإستخبارات الأمريكية الـ C.I.A تجارب غريبة قام بها طبيب كندي على مرضاه النفسيين في معهد "أولون" في جامعة ميكيجين تحت إشرافه كرئيس للمعهد. وقام هذا الطبيب والذي يدعى يووان كميرون، بحجز مرضاه في حالة من التخدير والعزل التام عن محيطهم. ثم عرضهم لضربات كهربائية وأعطاهم جرعات كبيرة ومتنوعة من المخدرات، الأمر الذي دهور حالتهم النفسية وأعادهم لفترة الرضاعة أو ما قبل القدرة على النطق. وفي حقيقة الأمر لم يكن هذا التدهور في حالة المرض مؤشر على فشل التجربة بل العكس تمامًا. فهو لم يشأ معالجة مرضاه وإنما كما نشر في مقالات عديدة له خلقهم من جديد. فقد آمن بأنه قادر من خلال إفقاد مرضاه قدرتهم على الإحساس بالزمان والمكان، وعبر محو ذاكرتهم وما يتصوروه عن أنفسهم أو محو ما تعلموه خلال حياتهم عن ذاتهم ومحيطهم وتحويلهم إلى لوح أبيض، يمكنه التغلغل لدماغهم. وأن ما يزرع السلوكيات والمفاهيم المرجوة. بكلمات أخرى لقد أراد القيام بغسل دماغ مرضاه وتحويلهم إلى لوح أبيض، يمكنه التغلغل لدماغهم. وأن يزرع السلوكيات والمفاهيم المرجوة. بكلمات أخرى لقد أراد القيام بغسل دماغ مرضاه وتحويلهم إلى أشخاص آخرين نفسيًا وعقليًا.[12]
لقد أخذت نتائج هذه التجربة واستخدمت بأشكال ومجالات عدة وعلى نطاقات ومستويات مختلفة. بدءًا من صياغة إرشادات وكراسات لمحققي الC.I.A حول كيفية إنتزاع الإعترافات من الأسرى، حيث استخدمت عقيدة الصدمة في التحقيق مع سجناء المعارضة السياسية، كما تشير نعمي كلاين في دول عديدة كتشيلي في حقبة بينوشيه وفي بوليفيا ودول أمريكا اللاتينية عمومًا لغاية الوصول لأسرى الحرب في العراق وأفغانستان وفي جوانتينامو والسجون السرية الأمريكية المنتشرة في العالم منذ الحادي عشر من سبتمبر. كما استخدمت نتائج هذه التجربة في النظرية العسكرية التي تم صياغة الإستراتيجية الأمريكية في اجتياح العراق وفقًا لها، حيث سميت "الصدمة والترويع". بهدف ليس تحقيق الأهداف العسكرية في الإستيلاء على العراق وإنما في تحويله كمجتمع إلى ما يشبه الرضيع، كما ظهر أثر الصدمة على الأفراد في تجربة الدكتور يووان كميرون، في خنوعه واستعداديته للتعلم، أي بكلمات أخرى تحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع بدائي وما قبل وطني، هكذا صفحة بيضاء يكتب وينقش عليها المحتل الأمريكي ما يشاء. فالصدمة من شأنها أن تشل القدرة على التفكير المنطقي فتلغي القدرة على مقاومة إرادة المحتل. لكنه ولضمان عدم ظهور أي إمكانية مستقبلية يستعيد بها الواقع تحت الإحتلال والقدرة على التفكير بمنطق، وبالتالي استعادة فكرة المقاومة فإنه يجب تحطيم كل ما هو قائم من إمكانيات ونظم ومفاهيم تحطيمًا شاملاً، وكلما كان الدمار كبيرا وشاملا كلما كانت الصدمة عميقة تحول الفرد أو الجماعة إلى لوح أكثر نقاء.
إن الصدمة كما تبين كلاين في كتابها ليست بالضرورة حربًا يُبادر إلى شنها ضد بلد[13] بغية صياغته من جديد كما جرى في العراق، وإنما يمكن أن تتحقق الصدمة بأشكال عديدة كالإنقلاب العسكري أو هجوم إرهابي، أو انهيار اقتصادي أو كارثة طبيعية كالتسونامي. فهذه الأحداث والكوارث من شأنها أن تلين مجتمعات بأكملها تمامًا كما يفعل التعذيب الجسدي في غرفة التحقيق بالأسرى. فمثلما الأسير الخائف يكون مستعدًا أن يسلم أسماء رفاقه أو يتنكر لمعتقداته في لحظات يكون فاقد القدرة على التفكير جراء الصدمة، هكذا تكون المجتمعات أيضًا. فالمجتمعات المصابة بصدمة ميالة أكثر للتنازل عن مبادئها التي في ظروف أخرى ما كانت لتتنازل عنها.
لقد آمن أصحاب عقيدة الصدمة بأن بمقدورهم صياغة مجتمعات كما الأفراد وفقًا لمصالحهم وأهدافهم، وقد استخدمت نظريتهم في تعميم وفرض نظم اقتصاديات السوق الحرّ في دول عديدة. إن كان في دول أمريكا اللاتينية في أعوام السبعينيات أو في روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي بالإضافة إلى فرضه على جنوب أفريقيا بعد إلغاء نظام التمييز العنصري، ومحاولة فرض اقتصاديات السوق وخصخصة لبنان في مؤتمر باريس عقب "صدمة" حرب لبنان الثانية صيف 2006، وقد استطاعت دول أمريكا اللاتينية الخروج من الصدمة وآثارها الإقتصادية بعد 27 عاما تقريبًا، كما استطاع لبنان ومقاومته عبر إعادة الإعمار من رفض شروط الدول الغربية والبنك الدولي وإعماره بقواه الذاتية. وهكذا فإن الصدمة ليست قدرًا محتومًا وهناك إمكانية دومًا الخروج منها والإفلات من براثن ما يخطط للبلدان التي تقع تحت وطأة الصدمة إن كانت حربًا أو كارثة طبيعية[14]....[يتبع]
..............................
[1] . زيجمونت بويمن، الحداثة السائلة (القدس: الجامعة العبرية، 2007)، ص 2-7.
يقسم بويمن الحداثة إلى مرحلتين/ حداثة أو "حداثة صلبة" و "حداثة سائلة"، ويرفض التعريف الدارج "حداثة" و "ما بعد الحداثة" لكونهما يقدمان الحداثة وكأنها مرت بمرحلتين مقطوعتين لا صلة بينهما. ويعتقد بويمن بأنهما متصلتان تجريان حوار بينهما. هذا التعريف يمكننا من فهم أعمق للإحتلال ما بعد أوسلو. فالإحتلال المباشر يمثل مرحلة الحداثة الصلبة فيما الإحتلال اليوم يمثل المرحلة السائلة وهي برأينا احتلالٌ شموليٌّ.
[2]. نشر الخبر+ مقال في هآرتس كتبته عميرة هس أو جدعون ليفي
[3] . تصريحه ظهر في الصحف العبرية
[4] . من خلال استبيان مررته على الأسرى ممن حاولوا تنفيذ عمليات استشهادية ولم ينجحوا. تبين أن الغالبية الساحقة منهم يعزون دافعهم للعمل لممارسات الإحتلال وما شاهدوه من قتل وتحديدًا قتل الأطفال، وقد أشاروا جميعهم نتيجة لذلك بأنهم كانوا يشعرون كمن ينتظر دوره للموت. ففضلوا الموت بالوقت والطريقة التي يختارونها.
[5] . بل ونعتقد بأنه يمكن استخدام مفهوم إبادة شعب في الحالة الفلسطينية، أنظر ما كتبه القاضي كارلوس روسينسكي بقرار إدانته لأحد مجرمي الحرب في الأرجنتين.
Federal oral court no.1case NE 225/06, September 2006, www.rodolfwalsh.org
أنظر أيضًا:
United nations office of the high commissioner for Human Rights “convetion on the prevention and punishment of genocide” approved December9, 1948, www.org.
فقد اعتبر الجرائم التي حصلت بين الأعوام 1976-1983 إبادة شعب، رغم إقراره بأن معاهدة الأمم المتحدة لمنع إبادة الشعب تعرف الإبادة على أنها "النية في إبادة مجموعة قومية، إثنية، دينية، أو عرقية بكاملها أو جزء منها". صحيح أن المعاهدة لم تشمل الإبادة لأسباب سياسية لكن الجمعية العامة للأمم المتحدة أجمعت في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1946 على قرار يقضي بمنع إبادة شعب والذي يشمل (إبادة مجموعة عرقية دينية سياسية وأخرى بكاملها أو جزء منها) لكن حذف كلمة "سياسية" من المعاهدة بعد عامين من تاريخ القرار جاء استجابة لطلب ستالين.
[6]. يقصد بـ "الحل النهائي" التسمية التي أطلقها النازيون على خطة الإبادة الجماعية لليهود في أوروبا بعد تجميعهم في جيتوات أثناء الحرب العالمية الثانية.
[7] . ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة (بيروت، مركز الإنماء القومي، 1990) ص210.
[8] . المصدر نفسه، ص 210.
[9] . نعمي كلاين، عقيدة الصدمة (تل أبيب: الأندلس، 2009)، ص 27-28.
[10] . المصدر نفسه، ص28.
[11] . المصدر نفسه، ص29.
[12]. . Ewen Cameron, J.G. Lohrenz and K. A. Handcock, “The Depatterning Treatment of Schizophrenia,” comprebensive psychiatry 3, no.2 (1962):67
[13] . نعمي كلاين، عقيدة اصدمة (تل أبيب: الأندلس، 2009)، ص29.
[14] . المصدر نفسه، ص 538- 544.
اسير Ùلسطيني.. سجن جلبوع.. موجود ÙÙŠ الأسر منذ عام 1986 (23 عاماً ÙÙŠ السجن) من مواليد باقه الغربيه..Ùلسطين.
www.deyaralnagab.com
|