logo
خداع الذات و"المسيار الفكري"!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 13.01.2010

في الجدل العالمي الذي يدور حول قضايا فكرية وأيديولوجية ودينية حساسة تتبدى عدة ظواهر ملفتة للانتباه, خاصة تلك التي يكون أطرافها "الشرق والغرب". بعض تلك الظواهر وجوانب النقاش تعكس أقدارا من "المراعاة الفكرية" التي تثير الحنق أكثر من أي شيء آخر, وهي أشبه بـ "المسيار الفكري". أمثلة المسايرة الفكرية كثيرة وتنطلق تقريبا من نفس النقطة وهي أن العرب والمسلمين يمرون الآن في مرحلة طفولة فكرية لا يقبلون الأفكار التي تتحدى ما اعتادوا عليه من فكر تقليدي وديني, لذا يجب مراعاة ظرفهم "الطفلي" وعدم دفع النقاشات الفكرية والدينية معهم إلى آخر مدى. المُدهش أن مراحل عديدة من النضج الفكري مروا بها, لكن يسير الزمن بهم إلى الخلف تاريخيا وبيولوجياً. من آخر تمظهرات "المسيار الفكري" ما شهدناه من نقاشات حول مسألة المئذنة السويسرية والحريات الدينية في أوروبا والعالم العربي والإسلامي. قيل, مثلاً, إنه في الوقت الذي تُطالب فيه أوروبا باحترام الحريات الدينية للمسلمين وغيرهم تساوقا مع قيمها في اعتبار التعددية والحريات مسألة جوهرية في الحياة الأوروبية, فإنه لا يمكن مطالبة العرب والمسلمين بنفس الممارسة لأن ذلك لا يتمشى حاليا مع المرحلة التي يمرون فيها. بل إن قوانين بعض البلدان العربية والإسلامية تضع حدودا وقيودا على الحريات والممارسات الاعتقادية للأغلبية التي تتبع الإسلام السني, ناهيك عن الأقليات التي تتبع طوائف واعتقادات أخرى.
يُغلف ذلك كله بغلاف برّاق يُسمى "احترام الخصوصيات الثقافية", لكنه في الواقع ينطوي على قدر كبير من التحقير المُتوافق عليه من قبل الجميع. الرسائل والمعاني التي تنطوي عليها "الخصوصية الثقافية" تنتسب كلها إلى الإقرار بالتفارق في المكانة الحضارية والفكرية, وترسخ الدونية الثقافية أكثر من أي شيء آخر. يتواطأ غربيون كثيرون, خاصة في سياق المؤسسات الرسمية الحاكمة الباحثة عن مصالح حكوماتها في المنطقة, على إعلاء مفهوم "الخصوصية الثقافية" لأنه يوفر الغطاء الفكري والسياسي المريح ضميريا وإعلاميا لتحالفاتهم مع دكتاتوريات المنطقة وعدم انتقادها. ويقع في قلب ذلك "الإعلاء" نظرة "دونية" جوهرها الاستهزاء بجوانب التخلف السائدة واعتمادها كأساس للتعامل والتبادلات البينية السياسية والاقتصادية على وجه التحديد.
نظرة الآخر الغربي والسياسة التي يتبعها, وعلى ما فيها من عنصريات مُستبطنة, قد نفهمها من منطلق البراغماتية السياسية وتبني أية مقاربات تمكنه في نهاية المطاف من تحقيق مصالحة. لكن ما لا يمكن فهمه ولا قبوله هو نظرتنا نحن لذاتنا والاستمراء المقلق لتلك النظرة والقناعة: القناعة بأنه لدينا "خصوصيات ثقافية" من نوع مختلف تسوغ لنا ممارسات وأفهاما خارجة عن المعقول, والمنطق, والسياسة, والتاريخ, والدين, والحس العفوي. هذه "الخصوصيات" صارت أشبه بخصوصيات "الطفل" التي تتطلب مراعاة خاصة وترفق إضافي من قبل البالغين. الكل يخشى أن "يجرح" مشاعرنا فيما نحن نملك القدرة على قول وفعل أي شيء إزاء أي طرف من دون أن حسابات مسبقة. "خصوصياتنا" تقول بأنه من حقنا أن نبني مساجد ومآذن في كل دول العالم: من سويسرا, إلى الولايات المتحدة, إلى الهند والصين اليابان والصين, وإلى روسيا والبرازيل. في كل هذه المناطق لا يهم إن كانت الأغلبيات كاثوليكية أو أرثوذكسية, أو بوذية, أو هندوسية, او "شنتوية". عليهم أن يقبلوا مساجدنا وأقلياتنا المسلمة. لكن من "خصوصياتنا" الثقافية أيضا أننا لا نقبل بأن يبنوا في بلداننا كنائس متنوعة التوجه, أو معابد بوذية, أو هندوسية, أو سيخية أو غيرها. خصوصياتنا تبرر لنا أن ننقض كل الأديان الأخرى ونعتبرها محرفة وتافهة وساذجة. لكن نفس تلك الخصوصيات ترفض بالقول وبالدم أن ينتقدنا أو ينتقد ديننا أحد. مثلنا في الواقع مثل "الطفل" الذي تقبل أن يأخذ "لعبتك" لكن تراعيه ولا تأخذ منه في المقابل "لعبته". قبولنا بمثل هذه "الخصوصية" هو امتهان لذاتنا قبل أي شيء آخر, وعندما يراعينا الآخر فيها ففي تلك المراعاة يكمن كل ما هو مُخالف لما يتبدى من "احترام" يغلفها.
في الجدل الأكاديمي والفكري والأيديولوجي في العالم تصل السجالات إلى كل الحدود وتتخطاها وينفتح العقل البشري على كل الاحتمالات, وتُطرح كل سيناريوهات المستقبل. في دوائرنا الفكرية والسجالية نختنق من الخطوط الحمر والأسقف المنخفضة, ونواصل جميعا اجترار نفس الأفكار التقليدية من دون جرأة على طرح ما هو جديد وما هو متحد وما هو مُستفز للجمود والركون. كل ذلك حتى لا نجرح "ذاتنا الطفلية" لأننا لا نحتمل فكرة خارجة عن سياق قناعات القطيع واعتقاداته. يُصاب المرء بالحزن والإحباط عندما يتابع سجالات الفكر والأيديولوجيا في العالم ويقارنها بالجمود الفكري والترفق الطفولي الذي يكتسح منابرنا. في السياسة هناك صخب السجالات الديمقراطية وتفريعاتها وأدوار المؤسسات الإعلامية والمالية والسلطات المسيطرة أو المستفيدة منها, وأدوار الرأي العام, والمجتمعات المدنية. وفي الاجتماع والفكر هناك سجالات العلم والدين التي لا تنتهي, ومناظرات المادية والإلحاد, حيث نرى على أهم المنابر الإعلامية والتلفزيونية أكبر القساوسة يتحاور مع أكبر الملاحدة. وفي البيولوجيا وعلوم المستقبل هناك كل ما له علاقة بتطور مستقبلات يتحكم فيها علم الجينات والاستنساخ, وإطالة عمر الإنسان, وكيف ينعكس ذلك كله على البشر والاجتماع. في الفن والإبداع هناك خلق حقيقي في كل شكل من الأشكال, وحفر في أعماق وطيات التوق الإنساني والتعبير عنه بشتى السبل. في كل حقل من الحقول هناك وقوف على آخر منتجات العقل البشري, واستنفار لما يمكن أن يتطور عنه. كل ذلك يستفزه الشك الدائم والقلق الإيجابي, والبحث عن الأجوبة. عندنا كل شيء جاهز ولا داعي للبحث فنحن ملاك الحقيقة وسدنتها.
في ركود "خصوصياتنا الثقافية" تربص طفلي بخبر يخرج هنا أو معلومة تطلع هناك أقرب في الحجم والنسبة والتناسب إلى نقطة ماء ضمن تلاطم موجات محيطات البحار, نتشبث بها ونضعها على شاشاتنا وفي صدر إعلامنا لأنها "تؤكد" صحة خصوصياتنا وفكرنا. عندما أعلن فريق من العلماء الأمريكيين أن فرعا من شجرة "أصل الأشياء" لداروين ينبثق عنه فرع إضافي يقود إلى الإنسان هللت خصوصياتنا الثقافية وإعلامها المحزن ب "سقوط نظرية داروين". لم يهتم محررو إعلامنا الأشاوس إلى أن ما وصل إليه العلماء أولئك أثبت وكرس, ولم ينقض, نظرية داروين. وفي ركود خصوصياتنا الثقافية نقرأ من حين لآخر ما يشير إلى رثاثة الطفولة الفكرية والعلمية التي نعيشها ونقبل بها, وآخرها "اكتشافات بعض علمائنا" أن الشمس تدور حول الأرض, وأن كل علماء العالم والأقمار الصناعية والفيزياء والرياضيات زورا الحقيقة التي نعيد نبشها من مقولات "الباز المنقض على القائل بكروية الأرض" والتي هي الثابتة والمفحمة.


www.deyaralnagab.com