مأجورين ..!!
بقلم : أ.رابحة الزيرة ... 27.01.2010
شغلني خبرُ نعيٍ مؤسف عن الكتابة في أيّ من أحداث الأسبوع الفائت وقضاياه العالمية والإقليمية المهمة التي ملأت أخبارها وسائل الإعلام، كزلزال هايتي الذي يبدو أنه سيتحوّل إلى استعمار أمريكي بعد أن بدا أنه محض مساعدة إنسانية لمنكوبي الزلزال، ونتائج الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا التي كشفت فشل "الثورة البرتقالية" التي قامت بمساندة قوى خارجية قبل خمسة أعوام، وذكرى مرور عام على تولي أوباما الرئاسة ومدى التزامه بوعود التغيير التي قطعها على نفسه، ومؤتمر دعم المقاومة في لبنان وتوقيته بمن حضره وما تمخّض عنه، والانتهاكات والجرائم اليومية التي تُرتكب في فلسطين المحتلّة، وارتفاع وتيرة التوتّر والعنف بين المسلمين والمسيحيين، والشيعة والسنّة في عالمنا الإسلامي والعربي، فأجّلت الكتابة فيها بعد قراءتي إعلان خبر "وفاة مكتبة" في دمشق رغم قناعتي بأنّ لكل واحدة من القضايا السالفة زوايا خفية لو (قرأناها) بوعي ودراية لازددنا علماً، ومعرفة، واعتباراً، وحكمة.
تحت عنوان "نعوة فاضلة"، نعت صحيفة "قاسيون" الأسبوعية بمزيد من الأسى واللوعة مكتبة "ميسلون" التي "تغمدها الله بواسع رحمته، وانتقلت إلى صحراء "الناشبية" وهي المنطقة التي تضم مستودعات المكتبة بعيداً في ريف دمشق، وقد كانت المكتبة فيما مضى منهلاً للكثير من المثقفين التنويريين، أخذت تضمحل تدريجياً، حتى بات موتها أمراً متوقعاً ومنتظراً، والمثير للدهشة حقاً أنها صمدت حتى يومنا هذا". انتهى الخبر .. ومن أسف أن يحدث هذا في دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008، وفي سوريا الكبرى مهد الحضارة الإنسانية! ولأمّة كان أوّل أمر إلهي تلقّته من السماء هو "اقرأ".
نعي المكتبة هذا أثار شجوناً حول القراءة تخالجني أبداً، وأسباب عزوف أكثر أبناء الأمة – كباراً وصغاراً - عن القراءة الجادّة فيما يغذّي عقولهم ويسمو بأرواحهم، والسبيل لتنشئة جيل يقاوم مغريات الترفيه المبتذل الذي اغتال عقولهم بعد تمييع شخصياتهم ومحوها حتى يكاد أكثرهم أن يضحّي بهويّته وقيمه لأجل ساعة هوى أو حفنة من متع آنية قد يكون من أرقاها مشاهدة فيلم (أكشن) لا يضيف إليه جديداً فحسب، بل ويخترق وعيه بشتى أنواع الفايروسات، أو الانغماس بلعبة (الكترونية) تسلبه حواسه فيغدو (آلة) تماماً كالجهاز الذي يتسلّى به، أو بالإبحار والتسكع في مواقع تمضية الوقت وقتله بالدردشات الخاوية.
تنوّعت أساليب التسلية اليوم للأطفال والشباب والكبار كذلك، وخطف الانترنيت وعالمه المليء بالحركة والصور والموسيقى والفرح والمرح من آبائهم، وحتى من بعض أصدقائهم وعلى رأسهم (الكتاب)، فلم تعد القراءة (هواية) بالنسبة لهم كما كانت لمن قبلهم، فبات الآباء يتعرّضون لابتزاز الأبناء العاطفي إذا طلبوا منهم أن يقرأوا كتاباً فكرياً، ثقافيا أو تاريخياً جادّاً بحجة أن هذا النوع من الكتب لا يستهويهم، فيضطر أولئك لخفض سقف توقعاتهم والرضوخ لطلبات أبنائهم في البحث عن كتب (ثقافية) سهلة وشيّقة، وإذا تعذّر ذلك استسلموا لنظرية الأبناء القائلة بأنّ القراءة عمل شاق وممل، فإن لم يكن الآباء متعوّدين على ممارسة القراءة أساساً، أو لم يكونوا مقتنعين بأهمية تنشئة الأبناء على حبّ القراءة وممارستها بصورة يومية كالأكل والشرب والصلاة فإنهم لا محالة سيقعون ضحية هذا الابتزاز العاطفي، وسوف ترجح كفّة الكسل والتراخي على الالتزام بعادة القراءة الهادفة، وها نحن ندفع الثمن غالياً.
أما عن تدنّي مستوى ذوق القرّاء في العالم العربي فيُذكر أن كتاباً بعنوان "صدّام لم يمت" جاء في قمة المبيعات في معرض الكتاب في القاهرة، حيث أنّ هذا الكتاب يحتوي على مائة وواحد وأربعين دليلاً على أنّ صدام وولديه لم يموتوا، وقد تمّ تأليفه وطباعته في غضون شهر واحد فقط (!)، ما يعني أنّ هذا المحقّق الفذّ استطاع أن يجمع هذه الأدلة الدامغة في أسبوعين أي عشرة أدلّة يومياً، والمصيبة أنّ هناك عشرات الآلاف من الناس يرون في هذا الكتاب إثارة تجعلهم يفضّلونه على غيره من الكتب الفكرية والثقافية القيّمة التي صرف كتّابها على كتابتها والبحث عن أدلّتها وتنقيحها سنوات طويلة من عمرهم ليقدّموا للقارئ العربي ما يحترم عقله ويشبع فضوله العلمي، ولو تُرجمت بعض هذه الكتب إلى اللغات الأجنبية لعرف علماؤهم قيمة ما فيها من حقائق قيّمة، ولمحّصوا نظرياتهم وصحّحوها بناء على ذلك.
الهدف من القراءة زيادة الوعي والمعرفة، والقراءة التي نطلب لا تقتصر على قراءة الكتب، بل هي قراءة للكون وسننه، وللنفوس وأسرارها، وللحياة وتجاربها، وما قراءة الكتب إلا مقدّمة لذلك، فإن لم تسفر عن ذلك فلابدّ من الاعتراف بضرورة أن ننحني لرياح التحدّيات التي تواجهنا لتسويق هذه القيمة الحياتية لمجتمعاتنا قبل أن تُكسر إرادتنا وتثبّط هممنا بتوفير سبل تحصيلها بما يتناسب مع ضرورات الزمان ومع طبائع الفئات المستهدفة، فكما استطاع تجّار البضائع المادية تسويق منتجاتهم (الكمالية) على جميع شرائح المجتمع بعد أن خلقوا لديهم الحاجة (المصطنعة) لها، فحريّ بنا كقادة فكر وكتّاب أن نحرّك فيهم الدوافع الذاتية للقراءة وتُهيّأ لهم الأجواء الممتعة والمشجعة على القراءة دون كلل أو ملل إلى أن تصبح القراءة زاداً يومياً لا غنى لكبير أو صغير عنها، قبل أن نُفجع بموت مكتبات ومكتبات.
www.deyaralnagab.com
|