logo
الليلة الملعونة...!!

بقلم : سهيل كيوان ... 11.02.2010

مازلت أذكر جيداً تلك الليلة الملعونة، استفقت من سباتي بسبب خدر في جنبي، دخلت الحمام ثم وقفت لأغسل يديّ وفوجئت بعدم وجود ذراعي الأيسر، المرآة كبيرة والمفروض أن تعكس نصفي الأعلى بكامله ولكنني رأيت قامتي مقسومة طولياً! مددت راحتي اليمنى إلى وجهي فلم أعثر على فكي الأيسر، انتبهت إلى الأسفل وأنا مذهول فرأيت أنني أقف على ساق واحدة.. يبدو أن هذا حدث قبل ثوان فقط وإلا كيف مشيت إلى الحمام! أسرعت لأطمئن على عضو استخدمته قبل لحظات، فوجدته مشطورا بالنصف طوليا بدقة مدهشة ومن غير سوء، تحسست أسفله وتأكدت أن هناك خصية واحدة لا غير!
لا بد أنه كابوس، ورغم يقيني أنه سينتهي بعد قليل مثل كوابيس سابقة، فقد سمعت صرخات تأتي من الخارج، فتحت شباك الحمام بما يتيح لي الرؤية، ففوجئت بجاري الخيّاط في ساحة بيته على ساق واحدة ومثله زوجته المريضة بالصفري وأطفالهما يصرخون ويلطمون كلٌ بيد...فقد كانوا مشطورين تماماً...
ركضت إلى السرير الذي غُششت بنوع خشبه، فسقطت ثم وقفت وقفزت قفزاً، كشفت الغطاء عن وجه زوجتي فلم أر سوى عين ونصف أنف، تحسست صدرها.. يا إلهي ...ثدي واحد فقط! أحسّت ففتحتْ عينها الوحيدة وأطلقت صرختها مثل صافرة إنذار! قفزت على ساقي حيث الأبناء، وقبل أن أرى وجوههم رأيت ثلاث أقدام بدلا من ست! أمعنت صراخاً وركضت فسقطت ثم عدت ووقفت ومضيت قفزاً إلى الشارع المليء بالحفر والمياه الآسنة فوجدت العشرات بل المئات ينظرون بدهشة إلى أنصاف بعضهم! إذاً فالظاهرة شاملة لم ينج منها أحد في البلدة ، حتى رئيس المجلس البلدي ظهر هو الآخر بنصف رأس وعلى ساق واحدة رغم محاولته ستر نفسه بعباءة وصلته هدية من أحد الحجاج ولف ما تبقى من رأسه بشماغ أصلي من الصناعة الإنكليزية!
أنصاف الأطباء قاموا بواجبهم المهني بإخلاص، فطمأنوا أنصاف الناس بأن أمراَ كهذا لن يكون مميتاً، لأن الانشطار تم بدقة متناهية دون سيلان قطرة دم واحدة، ولا يمكن تحديد الحقبة التي ستستغرقها هذه الحالة!
وما لبث الأمر الذي بدا مفزعاً قبل ساعات أن تحول مع شروق الشمس إلى مادة للسخرية، فكلٌ يحكي كيف اكتشف الأمر وكيف كان رد فعله الأولي! ومع انتصاف النهار كانت الأكثرية مقتنعة بأن ما حصل هو قدر، علينا أن نؤمن به ونستسلم له، ولا بد من وجود حكمة وراء هذا الحدث الرهيب!
ظهر بعض الرافضين لرواية القدر، وقالوا بوجود علة علمية وراء ما حدث، يجب كشفها ومعالجتها كي نستطيع استرجاع ما فقدناه. وقال آخرون بل هي مؤامرة كونية كبيرة ليس على أهالي بلدتنا فقط، بل على الأمة بأسرها، وإذا كانت بلدتنا تعد خمسة عشر ألف نصف كائن بشري فهناك بلدان تعدادها ثمانون مليوناً انشطروا عن بكرة أبيهم في اللحظة ذاتها.
بعد الذهول الذي بدا أنه لف العالم أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الظاهرة العجيبة مقتصرة على جنس محدد من البشر يحمل نوعاً معيناً من الكروموزومات!
اختفت البضائع القديمة من الأسواق خلال أيام كأنها لم تكن، وحلت مكانها بضائع من شتى أرجاء الأرض تلائم الجنس الانشطاري، وكأن المصانع كانت جاهزة ومستعدة لمثل هذا الحدث بل وتعرف موعد وقوعه! غمرت الأسواق بضائع من كل القارات والبلدان كتب على معظمها 'يد واحدة تصفق' و'نصف دماغ يغنيك عن صداع الرأس'! هكذا ظهرت موضة القمصان والسروايل ذات الفتحة الواحدة، والأحذية والنظارات الأحادية! والسيارات بمقاعد نصفية، والأواني المنزلية كذلك، الأمر الذي زاد من مصداقية نظرية المؤامرة الكونية!
عاد كثيرون إلى ألبومات صورهم وكاميراتهم وأفلام مناسباتهم كي يتذكروا كيف كانوا قبل الليلة الملعونة ولكن خاب ظنهم... فقد شمل الانشطار كل ما يتعلق بهم..حتى الصور والتماثيل والرسومات السابقة!
ادعى أنصاف مفكري الأمة أن الظاهرة تتعلق بوعينا المختل، والصورة التي نراها لأنفسنا هي انعكاس لعقدة نقص زرعها الأعداء فينا غيرة وحسداً، ولكننا في الواقع نفوقهم شكلاً وفكراً وأخلاقاً وتطوراً، ولإثبات ذلك لا يتطلب الأمر منا سوى صناعة مرايا وطنية!
ونشأت نظرية أخرى تقول إن الوعي هو انعكاس للواقع وليس العكس، ومهما حاولنا تجميل الحقيقة فإنما نوهم أنفسنا، فنحن بالفعل أنصاف بني آدمين، وعلينا الاعتراف بأن ما حصل كان من صنع أيدينا وإلا فلن نتجاوز هذه المحنة، بل قد نمسخ في يوم ما إلى زواحف ومنها قد نرسخ إلى حجارة.. وما حدث هو طفرة ارتدادية حذفت كل ما بات زائداً فينا مثلما حدث للإنسان الأول الذي فقد ذنبه!
وادعى نصف فيلسوف أننا غير موجودين أصلا لا كأنصاف ولا كاملين لا نحن ولا غيرنا، كل ما في الأمر أننا خيالات مجردة سابحة في فكرة كونية! فنحن قد نتألم أو نبكي، نستمتع أو نفزع، نفرح وحتى نبلغ النشوة أثناء النوم، وهذا يعني أن الشعور هو فكرة ولا وجود للمادة، والمنام هو فكرة صغيرة داخل فكرة الحياة الأكبر التي تعيش في الفكرة الكونية الكبرى!
بعد جدال كثير ومناكفات وتراشق بفناجين (النيس كافيه) وزجاجات المياه المعدنية، وعلب الشوكولاطة السويسرية، تصدى اللسانيون للقضية فقالوا إن ما حدث لنا هو بسبب اللغة، فنحن نتاجها، ونحن هباء بدونها، وكلما غيبنا كلمة من لغتنا الجميلة انتقمت منا وغيبت مرادفاً واقعياً ملموساً، لأن الكلمة هي الأصل! وواضح أننا مُسخنا بانمساخ لغتنا! وحتى 'حتى' لم تكتف بحتحتة قلوب علماء اللغة، بل حتحتت الصناعة والزارعة والمواصلات والاتصالات والعلوم كافة! والعودة الى الكمال ممكنة إذا ما دللنا لغتنا وأعدنا للكلام سلطته، ستبدعنا اللغة من جديد مثلما أبدعت أسلافنا، إذا اعترفنا أن الحرف أصدق أنباء من الغواصة النووية!
ورغم كل التفسيرات، بقيت فكرة القدر الذي لا يُردّ هي المهيمنة، أطلقها أنصاف رجال الدين وتبناها أنصاف الرؤساء وحواشيهم وأنصاف المثقفين والشعب! واتضح أن للانشطار حسنات كثيرة! فالطائرة التي تتسع لتسعين راكبا صارت تتسع لمئة وثمانين، والقطارات التي تتسع لألف يدخلها ألفان براحة، والحافلة المعدة لخمسين يستقلها مائة، والسجن المعد لعشرة آلاف معارض يستوعب عشرين ألفاً وهذه ثورة في الاقتصاد والسياسة، والمستشفى المعد لخمسمئة سرير يستوعب ألفا وهذه صدمة للجراثيم والسرطانات! ولكن لكل نجاح ثمنه، فالعبّارة التي من المفترض أن يغرق فيها أربعمئة على أعلى تقدير يغرق فيها ثمانمئة (متنيّل بستين نيلة)! والحمّام المعد لعشرين يدخله سبعمائة، ولهذا فإن بالوعات الأمة مسدودة بشكل شبه دائم!
سيكون من الصعب على الأجيال القادمة استيعاب ما كان عليه أجدادهم قبل الانشطار الكبير، خصوصاً وأنه حدث بشكل تراجعي لحوالي ألف عام وشمل رفات الأجداد في قبورهم، وسوف يُرهق الدارسون بجمع الدلائل لإثبات الحقيقة الأنثروبيولوجية البسيطة بأن أجدادهم كانوا في زمن ما بشراً أسوياء قبل تلك الليلة الملعونة...


www.deyaralnagab.com