logo
القمة العربية أمام لحظة تاريخية!!

بقلم : نقولا ناصر* ... 22.03.2010

(*مبادرة السلام العربية كانت وما زالت تقتضي سياسة عربية تتناقض تماما مع سياسة الاسترضاء العربي حد الاستسلام المطلق لكل مبادرة واقتراح وبادرة أميركية لحل الصراع العربي الإسرائيلي)
إذا ما أمسك القادة العرب باللحظة التاريخية الراهنة، وامتلكوا الإرادة السياسية الموحدة والمستقلة لالتقاطها مستوحين المصالح العربية العليا أكثر من مصالحهم القطرية الضيقة، خلال قمتهم في سرت الليبية أواخر الشهر الجاري، فإنهم سوف يساهمون في تحويل اختلاف تكتيكي أميركي – إسرائيلي إلى خلاف استراتيجي يخدم المصالح الحيوية العربية والأميركية على حد سواء.
إن تهالك الإدارة الأميركية الحالي على استئناف المفاوضات الفلسطينية والعربية ـ الإسرائيلية يصطدم حاليا باستحالة أي استئناف كهذا وعبثيته، من وجهة نظر عربية وفلسطينية، فاستئناف "عملية السلام" مصلحة حيوية للنظام العربي الرسمي، كما تثبت مبادرة السلام العربية، طالما استهدفت الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة وإقامة دولة فلسطينية، وهي مصلحة حيوية للمفاوض الفلسطيني طالما كانت القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة، ففي القدس تولد الدولة الفلسطينية أو يتم وأدها.
وبالتالي فإن الفشل الأميركي في كبح عملية التهويد المتسارعة للقدس ينسف أي مصلحة حيوية فلسطينية في عملية السلام، وهذا بدوره ينسف أي مصلحة حيوية عربية فيها كتحصيل حاصل، ففي القدس يوجد الصاعق الذي قد يفجر "عملية السلام الأميركية" إلى غير رجعة، وفيها أيضا توجد إمكانية عربية لتحويل الاختلاف الأميركي ـ الإسرائيلي الراهن -- لهذا السبب على وجه التحديد -- إلى خلاف استراتيجي يخدم المصالح الحيوية العربية والأميركية معا.
فإجماع القادة العرب على مبادرة السلام العربية يتلخص في رسالتين، الأولى إجماع على اعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي والسلام معها مشروطا بانسحابها من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، والرسالة الثانية إجماع على منح الولايات المتحدة فرصة تاريخية لإثبات حسن نيتها في صنع السلام العربي ـ الإسرائيلي، وهذا يعني إجماع عربي على الفصل بين الاعتراف بدولة المشروع الصهيوني كما انتهت إليه حدودها باتفاقيات الهدنة عام 1949 وبين الاعتراف باحتلالها بعد عام 1967.
وهو فصل كان وما زال يقتضي سحبه عربيا ليشمل الولايات المتحدة التي تم تبني مبادرة السلام العربية استرضاء لها في المقام الأول، أملا في أن يشجعها هذا الاسترضاء على الفصل بين مصالحها الحيوية في الوطن العربي الكبير ومحيطه الشرق أوسطي وبين مصالح ربيبها الإسرائيلي، لتتخلى عن انحيازها السافر لدولة الاحتلال وتتخذ موقفا محايدا في الصراع العربي ـ الإسرائيلي يؤهلها لدور وساطة نزيهة فيه.
لكن كل الدلائل تؤكد أن واشنطن قد فشلت حتى الآن في الاستجابة للرسالة العربية الواضحة كالشمس، غير أن هذا الفشل عربي بقدر ما هو أميركي، فمبادرة السلام العربية كانت وما زالت تقتضي سياسة عربية تتناقض تماما مع سياسة الاسترضاء العربي حد الاستسلام المطلق لكل مبادرة واقتراح وبادرة أميركية لحل الصراع، وكانت وما زالت تقتضي سياسة عربية تخدم هذا المبادرة بتحويل الإجماع العربي على ضرورة الفصل بين الضمان الأميركي لأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين ضمان أمن احتلالها إلى شرط عربي مسبق للقبول بأي دور أميركي للوساطة في حل "سلمي" للصراع.
غير أن اشتراطا عربيا كهذا يقتضي قرارا استراتيجيا لا يستطيعه إلا قادة تاريخيون، وقد دفع جمال عبد الناصر في مصر وصدام حسين في العراق ثمنا وطنيا وعربيا باهظا توج باستشهادهما في محاولات كهذه، لكن موقفا عربيا مستقلا موحدا ذا إرادة سياسية حرة كفيل بالتعويض عن غياب القيادات التاريخية، وهذا هو الامتحان التاريخي للقادة العرب اليوم، وهذا هو المحك الفيصل للحكم على القمة العربية المقبلة في ليبيا بالفشل أو النجاح في التقاط لحظة تاريخية راهنة مواتية، وإلا فإن هذه القمة ستمر كحدث عابر كسابقاتها، حتى لو حملت هذه القمة اسم القدس، كما طالبت الرئاسة الفلسطينية، لأن القدس في حالها الراهن تستدعي قمة عربية وإسلامية طارئة وعاجلة لا قمة دورية عادية، اللهم إلا إذا ارتفعت هذه الأخيرة إلى مستوى الخطر الاستراتيجي التاريخي الذي يهدد القدس والعرب والمسلمين كافة.
إن حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي مخيرة الآن بين استرضاء راعيها الأميركي وبين انفراط عقد ائتلافها الحاكم وقد اختارت حتى الآن الخيار الثاني، لتضع إدارة أوباما في خانة الإدارة الأميركية الأكثر استخذاء وتراجعا أمامها بين كل الإدارات التي سبقتها، بينما اختار العرب في معظمهم الاستمرار في سيساساتهم التقليدية الساعية إلى استرضاء الولايات المتحدة بكل السبل، بمنحها "أوراقا" متتالية لإثبات حسن النية والصداقة تجاهها، وكان أحدث هذه الأوراق منح مباركتهم لاقتراحها إطلاق مباحثات تقارب تقود إلى استئناف المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية بشروطها الأميركية ـ الإسرائيلية السابقة نفسها التي قادت إلى فشلها بعد عقدين من الزمن من انطلاقها، بدلا من تعظيم الخطر الذي تستشعره على مصالحها بتحويل عدم التعاون العربي السلبي والمتردد والموسمي والباهت الراهن إلى موقف إيجابي قاطع بعدم التعاون الاستراتيجي طالما لم لم تستجب واشنطن للرسالة العربية الجماعية الواضحة كالشمس، وكل الدلائل تشير إلى أنها في غير وارد الاستجابة لها في أي مدى منظور، لكن في الحالتين فإن هذه هي اللحظة التاريخية التي تنتظر قادة استراتيجيين عربا يلتقطونها، وانعقاد القمة العربية هو المناسبة الملائمة لالتقاطها، إذا توفرت الإرادة!
استراتيجيا، كانت وما زالت المصالح الحيوية الأميركية – الإسرائيلية في الوطن العربي ومحيطه متطابقة وسوف تظل كذلك إلى أمد غير منظور أساسا لتحالف استراتيجي ثنائي تخدم فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي الاستراتيجية الإقليمية الأميركية مرة كقاعدة لها وأخرى كعصا إقليمية لها مقابل حماية الولايات المتحدة لأمنها وتعزيزها له ليكون متفوقا نوعا وكما على كل محيطه العربي والإسلامي.
أما تكتيكيا فكثيرا ما تباينت هذه المصالح، وكثيرا ما اختلفت، لكنها اليوم تتصادم، أو تكاد، في الظاهر حول الاستعمار الاستيطاني اليهودي المستشري في القدس المحتلة، "فالكلب الأميركي قد تعب من تحريك ذنبه الإسرائيلي له"، كما كتب أمير أورين في هآرتس الإسرائيلية يوم الخميس الماضي، ولذلك، وبالرغم من حرص الجانبين العلني والرسمي على احتواء هذا الاختلاف، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الموجود حاليا في واشنطن لمخاطبة المؤتمر السنوي للوبي الصهيوني – اليهودي "إيباك"، الذي افتتح الأحد، لن يحظى باستقبال الرئيس باراك أوباما له، بحجة أن هذا الأخير لن يكون في عاصمة بلاده، بل سيلتقي نائبه جوزيف بايدن، الذي "أدان" توقيت إعلان القرارات الاستيطانية الإسرائيلية أثناء زيارته الأخيرة لدولة الاحتلال، ويلتقي كذلك وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، التي ستخاطب مؤتمر "إيباك" بدورها والتي أدانت ذلك الإعلان باعتباره إهانة لبايدن وإدارته وبلاده.
وهذا الاختلاف الراهن فجره في الظاهر -- كقشة قصمت ظهر العلاقات الثنائية المتوترة لأسباب عديدة أخرى -- التحدي الإسرائيلي للنصائح الأميركية المتكررة بوقف التوسع الاستيطاني اليهودي في الشطر المحتل من القدس عام 1967، ولو إلى حين استئناف المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية التي تسعى واشنطن جاهدة لاستئنافها لأسباب لها علاقة مباشرة بتهدئة جبهة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من أجل التفرغ لحروبها الإقليمية الأخرى في العراق وأفغانستان أكثر مما لها علاقة بجهد حقيقي لصنع السلام.
وهذه "المجابهة" التكتيكية الأميركية ـ الإسرائيلية كانت "حتمية"، لكن ليس بسبب التوسع الاستيطاني اليهودي المتسارع في القدس المحتلة، فهذا التوسع كان مجرد "فتيل" فجرها، وليس بسبب "الحرج" الذي سببه هذا التوسع لبايدن أثناء زيارته، ولا بسبب "توقيت" الإعلان عن قرارات استيطانية جديدة، ولا كان سبب المجابهة "أي ضعف في الرباط" الوثيق بين الجانبين، "فالمجابهة كانت آتية على كل حال"، بل كانت "حتمية" بسبب "مجيء حكومتين جديدتين لكل منهما تفويض (من الناخبين) لعكس سياسات بلده حول السلام في الشرق الأوسط"، ولذلك كان لا بد للحكومتين من "الاصطدام مباشرة"، وإن اتفق الجانبان "على نقطة واحدة" هي قناعتهما بأنهما "يواجهان العدو نفسه في شكل الراديكالية الإسلامية العنيفة"، كما كتب جيه. جيه. غولدبيرع في "فوروورد" اليهودية الأميركية في عددها الأخير.
وقد أضاف غولبيرغ أن "الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني" قد عاد ليحتل المرتبة الأولى على أجندة أوباما في كانون الثاني / يناير الماضي بعد إيجاز قدمه في منتصف ذلك الشهر كبار مساعدي قائد القيادة الوسطى الأميركية، الجنرال ديفيد بيترايوس، إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مايكل مولن، بعد جولة موسعة لهم على القادة العرب في الشهر السابق، خلصوا بعدها إلى أن بلادهم تخسر مصداقيتها في العالم العربي، وهو ما أبلغوه لمولين، لأن القادة العرب أصبحوا يعتقدون بأن أميركا عاجزة "عن مواجهة إسرائيل" حول خلافات أساسية معها، مما أثار "قلقا متناميا" لدى الجنرال بيترايوس حول نتائج ذلك على الموقف العسكري الأميركي في الحرب على العراق وأفغانستان (مجلة "فورين بوليسي في 13/3/2010)، لأن "العناد الإسرائيلي في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني كان يعرض للخطر موقف الولايات المتحدة في المنطقة" كما قال المحلل الأميركي مارك بيري.
وفي السادس عشر من الشهر الجاري، وفي جلسة استماع له أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس شيوخ الكونغرس الأميركي، قال بيترايوس في بيان مكتوب إن "الأعمال العدائية المستمرة بين إسرائيل وبين بعض جيرانها تطرح تحديات واضحة لقدرتنا على خدمة مصالحنا في منطقة مسؤوليتنا"، وإن التوترات الإسرائيلية ـ الفلسطينية "لها تأثير ضخم في الإطار الاستراتيجي الذي نعمل فيه في منطقة القيادة الوسطى" ولذلك أعرب عن دعمه لجهود إدارة أوباما لتحريك "عملية السلام" الفلسطينية ـ الإسرائيلية التي يحول إصرار نتنياهو على تهويد القدس دون تحريكها، وشجب عدم إحراز تقدم في حل صراع إسرائيل مع الفلسطينيين والسوريين بسبب النتائج السلبية الناجمة عن ذلك مثل ضعف الاستعداد العربي لتوثيق التعاون مع الأميركيين، وإضعاف الأنظمة المعتدلة المهيأة لمثل هذا التعاون، وزيادة قدرة إيران على زعزعة الاستقرار في المنطقة. وكان ديفيد أكسيلرود، أحد كبار مستشاري أوباما قبل يومين، في مقابلة له مع شبكة "إيه بي سي" قد ربط بوضوح بين أمن الولايات المتحدة وبين حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية قبل ذلك قد نقلت عن بايدن قوله لنتنياهو خلال زيارته الأخيرة لدولة الاحتلال إن هذا الوضع "قد بدأ يصبح خطيرا بالنسبة لنا. إن ما تفعلونه هنا يزعزع أمن قواتنا التي تقاتل في العراق وأفغانستان وباكستان، وهو يعرضنا للخطر كما يعرض السلام الإقليمي للخطر"، وبالرغم من النفي الأميركي اللاحق لنص ما قالة بايدن، فإنه لم ينف فحواه.
وترك بايدن كما يبدو للأدميرال جيمس ستافريدس، قائد القيادة الأميركية ـ الأوروبية التي تقع إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة ضمن ولايتها العسكرية، مهمة المقارنة بين هذا الاستهتار الإسرائيلي بالأمن الأميركي وبين الحرص الأميركي على أمن إسرائيل واحتلالها عندما فصل في شهادة له أمام الكونغرس مؤخرا التعاون الأميركي لحماية أمن دولة الاحتلال قائلا إن هناك أكثر من (500) حالة "تعاون أمني" بين الجانبين سنويا، وثماني مناورات عسكرية كل سنتين، ومؤتمرات متواصلة حول "الحوار الاستراتيجي" والتخطيط، والتدريب، وتكامل العمليات العسكرية، ناهيك عن الخطر الذي يتعرض له ألف جندي أميركي متمركزين في منشاة للرادار في النقب، وربما لم يتطرق ستافريدس لمليارات الدولارات الأميركية التي تقدمها بلاده معونات ومنحا لدولة الاحتلال ولم يتطرق كذلك للدرع الدبلوماسي والسياسي الأميركي الذي يحتمي به الاحتلال الإسرائيلي منذ ما يزيد على أربعين عاما لأن ذلك سر مكشوف غني عن البيان.

* كاتب عربي من فلسطين

www.deyaralnagab.com