logo
ليس كما تكونون يولّى عليكم !!

بقلم : رشاد أبوشاور ... 24.02.2010

نعم: ليس الأمر هكذا: كما تكونوا يولّ عليكم!
في كل جلسة تجمع فلسطينيين عاديين بسطاء طيبين، أو مناضلين مخضرمين حائرين من هول ما يرون، يتردد السؤال: شو الحل، أي: ما العمل؟ ثمّ تنفض الجلسة، أو حلقة الجدل، ولكن دون التوصّل إلى جواب للخروج من المأزق الفلسطيني الخانق المُحبط، ليستمر السؤال، والبحث عن جواب ينهي المأزق، ويهدي الحائرين، وينهي حقبة قيادة عاجزة ضلّت وأضلّت، ومزّقت الصفوف، وبددت الطاقات.
سؤال معلّق بلا جواب عملي، وحيرة معذّبة موجعة، وتأمل في الأوضاع الفلسطينيّة التي لا تسر صديقا، وجدل يمضي مشتتا، حانقا، ثمّ ارتجال أحكام لا تستند إلى المنطق والعقل تزيد المتسائلين المتلهفين إرباكا.
يجلد الفلسطينيون أنفسهم كثيرا وهم يرون مآل ثورتهم المعاصرة، ونوعية القيادات التي استمرأت القبض على المناصب والمكاسب والإثراء غير المشروع، والانتقال من فشل إلى فشل.
يزيد من ألم الفلسطينيين ما يسمعونه من لوم لا ينتهي، من عرب يرون فلسطين قضيتهم، ومن مُغرضين مُحبطين شامتين، وإشهار تلك المقولة التي تبدو حكما مبرما، وقدرا لا فكاك منه ولا خلاص: كما تكونوا يولّى عليكم.
الفلسطينيون لا يوافقون لائميهم على تحميلهم مسؤولية فشل قياداتهم وصغارها ورثاثتها، وإن كانوا يشعرون بالحرج والغضب ممن يقودونهم، ويجرونهم وراءهم من فشل إلى فشل، ويتسببون لهم بمعاناة لا يستحقونها بعد أجيال من التضحيات، وألوف الشهداء، وعشرات المعارك الكبرى ضد أعداء أقوياء.
كما تكونوا يولّ عليكم!
هذه مقولة فيها إهانة لشعب فلسطين، لأنها متسرّعة، لا تُلم بظروفه، وما يعانيه بسبب تمزّقه في أماكن شتّى تمتص طاقاته.
لو أن شعبنا الفلسطيني ضعيف الإيمان، قليل الصبر، لانهزم منذ عقود خلت، ولرفع الراية البيضاء، ولسهّل لأعدائه رغبتهم في اندثاره وأفول قضيته، ولامحى حضوره ونُسي وطويت صفحته.
لو أن شعبنا الفلسطيني قابل للكسر لانكسر وقد خُذل في ثوراته المتلاحقة، ولما قامت له قائمة بعد نكبة 1948 وقد انهالت عليه خناجر الغدر والخذلان، ومُزق، وبات مشردا لاجئا على ثرى وطنه، وفي الشتات.
لو أن شعبنا الفلسطيني سريع العطب لكفر وهو يخرج من مذبحة، ليدخل في مذبحة أشد هولاً وفتكا!
من يرددون مقولتهم: كما تكونوا يولّ عليكم، وهم يتبرمون من الحال الفلسطيني، مستهجنين وجود قيادة بائسة دون المستوى، تتحكّم في هذا الشعب المكافح الصلب المضحي طويل النفس، الصبور، العنيد ـ وهذه بعض صفاته ـ يجهلون، أو يتجاهلون أن شعب فلسطين ليس على أرضه، ولا يجمعه مكان واحد.
وحتى نسهم في ضحد هذه المقولة المُهينة لشعبنا، والتي لا تنطبق عليه أبدا، لأن فيها استخفافا وتقليلاً من من قيمة تضحياته، ومن قدرته على المحاسبة والمحاكمة، فإننا نُذكّر ببعض الحقائق:
مُنذ العام 1948، أي عام النكبة، وقعت المساحة الأكبر من أرضنا الفلسطينيّة تحت الاحتلال الصهيوني، وبقي تحت الاحتلال جزء من شعبنا، وتشرّد الألوف داخل فلسطين نفسها، وفي سورية، ولبنان...
فُصل قطاع غزّة عن فلسطين الجغرافيّة والتاريخيّة، أرضا وتجمعا بشريّا، ووضع تحت الإدارة المصريّة.
باتت فلسطين ثلاثة أقسام: قسم مُحتل صهيونيّا، والقطاع، والضفّة الفلسطينيّة التي ضُمّت للأردن.
بعد هزيمة حزيران (يونيو) 67 خضعت فلسطين كلها للاحتلال الصهيوني، وتشرّد مئات الألوف، ولجأوا إلى الأردن، وسورية، ولبنان...
الشعب الفلسطيني الذي يبلغ تعداده قرابة الـ11 مليونا، يتوزّع في عدّة أقطار عربيّة، إضافة إلى بلدان أوروبيّة، وأمريكيّة لاتينية، تشيلي خاصةً، ومن يتأمّل هذا التوزّع لا بدّ أن يخرج بنتيجة بسيطة، وهي أن الشعب الفلسطيني لا يستطيع التواصل بسبب الشتات، واختلاف أماكن الإقامة، وبعد المسافات، والحدود التي تناصب الفلسطيني الشّك، وأحيانا العداء، وتضيّق عليه، وتحرمه من القيام بواجبه تجاه وطنه المُحتل الذي يناديه ليل نهار للنهوض بهذا الواجب.
الشعب الفلسطيني محروم عمدا من خوض معركة تحرير فلسطين، ولذا فإنه يخوض هذه المعركة بأجزاء منه...
لنتأمّل ما يجري حاليّا لأرض فلسطين، ولشعب فلسطين، في فلسطين المحتلّة عام 1948، والضفّة الفلسطينيّة، وقطاع غزّة..فماذا نرى؟!
في فلسطين الـ48 يخوض أهلنا هناك معركة الهويّة العربيّة (الفلسطينيّة) والتشبّث بالأرض وبالبقاء عليها.
وفي الضفّة ينخرطون في معركة مواجهة الجدار، وعروبة القدس، والتصدّي لهدم البيوت والطرد، أي الترانسفير بالقطعة...
وفي قطاع غزّة، معركة مواجهة الحصار، وجدار الخنق الذي يغرسه نظام مبارك في خاصرة القطاع، ويلفّه حول عنق أهلنا ليموتوا اختناقا.
نذكّر بأن الفلسطينيين في لبنان خاضوا في العام 1982، هم والشعب اللبناني، وقوّات الثورة الفلسطينيّة، والحركة الوطنيّة اللبنانيّة، حربا شرسة مع قوات الاجتياح الصهيوني، بينما أبناء الشعب الفلسطيني في كل أمكنة تواجدهم حُرموا من الزّج بطاقاتهم دفاعا عن ثورتهم.
الشعب الفلسطيني بملايينه الـ11، محروم من تنظيم طاقاته، وقدراته، ومن المؤلم أن قياداته تستغل هذا الأمر بدلاً من اللجوء إلى أساليب ووسائل للتغلّب عليه، لأنه لو أتيحت لشعبنا حريّة الاختيار لما بقيت هذه القيادة ليوم واحد.
أحيانا تستثمر القيادات الفلسطينيّة معاناة الفلسطينيين في هذا البلد أو ذاك، وتكسب منها، وتوظفها في الكيد بمن يتحركون ضدها، أو حتى ينتقدونها، لأنها ترى في أدنى درجات النقد مسّا بمناصبها وامتيازاتها.
هناك من يُصدرون الأحكام بتسرّع، فنجد من يضعون القيادات الفلسطينيّة كلها، سابقا ولاحقا، قبل النكبة، وفي الثورة المعاصرة، تحت حكم واحد: نكبة الشعب الفلسطيني في قياداته.
لو عدنا وقرأنا الحقبة التي عاشتها قيادات شعبنا قبل النكبة، منذ الانتداب البريطاني، وبدء الغزوة الصهيونيّة، فإننا سنجد أنفسنا أمام قيادات خرجت من صفوف شعبنا، من الريف، من أوساط الفلاّحين، وتلك القيادات امتازت بالشجاعة، والمصداقية، وبذل كل ما تملك من المال وحتى الروح، وبوعي فطري قادر على التمييز بين العدو والصديق، وهي قيادات مستقيمة نظيفة السلوك، تتميّز بأخلاق ما زال شعبنا يتغنّى بها حتى أيامنا هذه.
تلك قيادات مختلفة.
وحتى من تصنّف بالقيادات التقليديّة، فإنها لم تُثر من الثورة، ولا ارتضت لنفسها أن تكون تحت عباءة هذا النظام أو ذاك، ولا استعانت بالساقطين، ولا رفعت الجبناء، ولا جعلت من الثورة وجاهة، وامتيازات، وحياة راحة ودعة...
نعم تلك القيادات يمكن توجيه النقد لها في هذا الموقف أو ذاك، ولكن لا يمكن لأحد أن يصم وطنيتها مهما اشتط رأيه.
وهذه قيادات رغم كل نقدها للقيادات التي سبقتها، فإنها تدمّر قضيتنا، وتمسخ هويتنا، وتسد الطريق على القيادات التي يمكن أن تغيّر وتطوّر وتنقذ، مستعينة بجهات عربيّة، وحتى بالأعداء..هل يحتاج هذا الكلام للبرهنة عليه؟!
شعبنا يستحق قيادات أكثر صلابةً، وصدقا، وإبداعا، وتضحيةً، واستقامة سلوك، ونظافة أيد، وقبل كل هذا وبعده: الأخلاق، فالقيادات الراهنة لا ترى في الأخلاق ضرورة، لأنها كما يردد كثيرون منها (تلعب) سياسة، وسياستها لا صلة لها بالروح الوطنيّة، فاللعب السياسي لعب خاص، ومن يلعب لنفسه يبرر علاقاته المخزية عربيّا و(إسرائيليّا) وأمريكيّا ...
شعبنا يستحق قيادة تليق بتراثه النضالي، وهذه القيادات تسد الطريق مستغلّة تشتته في بلاد العرب، وفي العالم...
بروز قيادة مُبدعة تتجاوز كل المعوقات، توحد طاقات الشعب رغم المسافات والحدود، وتعيد الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة، وشعب فلسطين العظيم، هو التحدّي أمام قيادات ستحظى باحترام شعبنا، شرط أن تبرهن على صدقيتها ميدانيّا...


www.deyaralnagab.com