ديمقراطية خنق الأصوات الوطنية..هبة الشمري نموذجا!!
بقلم : علي الكاش ... 04.02.2010
الحقوق ريعانة الصبا نظرة لا تشيخ مهما تقادمت السنين وهي تنبض بالحياة ولا تتوقف لأن هناك من يستمتع بسحرها وجاذبيها ويتشبث بها بقوة. والحقوق لا تموت لأن هناك من يقف ورائها ليسندها ويدعمها كلما ضعفت وتراخت قواها. الحقوق لا تموت لأن تعاليم السماء وقوانين الأرض تحميها وتمدها بأنفاس الحياة العطرة كلما أشتدت أيدي الطغاة على رقابها. وحق المواطنة من أهم الحقوق التي لا يمكن التنازل عنها مهما فاضت الهموم وطفحت الأشجان. حق المواطنة وهو حق ينال وواجب يعطي. إنه القاعدة الرئيسية التي تستند عليها بقية الحقوق إذا ما وضعنا جانبا الحق في الحياة لأنه هبة من الله سبحانه تعالى يسحبها متى يشاء. وحق الإنسان في التعبير عما يختلج نفسه من أفكار ومشاعر وأحاسيس هو الأبسط من تلك الحقوق. لذلك تضمنت دستاير معظم دول العالم حتى المتخلفة منها هذا الحق وصنفته في نصوص الحريات الأساسية للشعوب.
من المؤسف أن بعض الحكومات التي تنص دساتيرها على حرية التعبير هي أول من يغتال هذه الحرية ويتبرأ منها، فعندما تكون خارج الحكم أو في المعارضة تعزف بكل قوة على هذا الوتر ولكن ما أن تمسك بزمام الحكم حتى تقطعه أربا إربا! وكان من الأجدى أن تلغي هذه الفقرة المحرجة لها من الدستور طالما انها لا تؤمن بها، بدلا من تضليل الشعوب بها. إنها ازدواجية لا مبرر لها وانفصام متعمد لا يمكن فهمه! فهو تصرف أشبه بتصرف الرعاع وقطاع الطرق! لطالما إنها تقف في أعلى هرم السلطة؟ فعلام ترفع شعارات براقة زاهية المنظر من الخارج وقبيحة الشكل من الداخل؟
الأديان السماوية على علو شأنها تعاملت مع تلك الحقوق بمنتهى الشفافية والوضوح. فالقرآن الكريم مثلا أشار بدقة لموضوع حرية التفكير والأختيار وهناك الكثير من الآيات الكريمة التي تؤكد هذه التوجه الرائع, فقد جاء مثلا" قل الحق من ربكم, فمن شاء فليؤمن ومن شاء ليكفر"/ سورة الكهف آية 29 وكذلك" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"/ سورة البقرة آية 25. وأيضا " ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور" / سورة لقمان آية .23 وكذلك" قل آمنوا به أو لا تؤمنوا" سورة الإسراء آية 107 . وأخيرا " وأن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين" سورة العنكبوت الآية18. إذن حرية التعبير كفلها الباري قبل أن تتضمنها الدساتير والمواثيق الدولية, كفلها عزً وجل في أحرج مواقعها، ما بين الإيمان أو عدم الإيمان به( جل جلاله) أو بدعوات رسله الأكرمين الذين أصطفاهم دون غيرهم.
ومع تطور البشرية تطورت هذه المفاهيم إلى أن وضعت الثورة الفرنسية الأطر العامة للحريات الأساسية ومنها حرية التعبير وأشرقت مباديء هذه الثورة على بقية الأمم لتنور بها دساتيرها. ونستذكر في هذا المجال وصف فيلسوف الثورة الفرنسية فولتير لحرية الرأي والتعبير في أجمل عبارة قيلت"قد أخالفك في الرأي ولكني مستعد للموت من أجل أن تقول رأيك بكل صراحة". وفي مجال علم النفس يرى سيجموند فرويد بأن " تقييد حرية التعبير عن الغرائز يؤدي إلى خلق العقد النفسية, مثلما تعتقد البرجوازية إن تقييد حرية التجارة تؤدي إلى الفقر والاستعباد".
حرية الرأي والاعتقاد لا تقبل الصفود قاسية كان أم هينة! فهي كالطائر مطلق السراح يحلق عاليا مستمتعا بسمائه وطيرانه. إنها تتطلب ترك باب الفكر مفتوحا أمام الآخرين وعدم تحديد مساحة لدخولهم وخروجهم مع ضمان حرية الاختلاف وإعلان الرأي المخالف بالطريقة المناسبة بكل الوسائل الممكنة بما فيها وسائل الاعلام. ويفترض تقبل الطرف الآخر للرأي المعارض مهما بلغت قسوته. لنسميه نوعا من التحدي لكنه تحدي مقبول لتلافي الأخطاء وتشخيص العلل في المجتمع وإداء الحكومة. لذلك فحرية الرأي هي المعيار النموذجي لتقييم نجاح الحكومة أو فشلها في المسيرة السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية. وكلما تمكنت الحكومة من توفير الأرضية الصلبة للمجتمع لكي يقول كلمته الفيصل بشإن إدائها وبحرية تامة، كلما تمكنت من التقرب منه وهيأت لنفسها فرص تشخيص ومعالجة مواطن الفساد, ورسخت للشعب الشعور بالأمل والأمان وطمأنته بوجود فرص للتغيير والتصحيح.
تكتسب حرية التعبير أهمية عند تتعرض الشعوب للإضطهاد والدكتاتورية، ولكن الأهمية القصوى تكون بتعرضها للإحتلال الأجنبي. فالإحتلال كالحاضنة تحتضن كل الشرور والمفاسد. فالفساد السياسي والإقتصادي والثقافي والإجتماعي والإخلاقي كلها نتائج حتمية للإحتلال. والعراق المحتل أفضل نموذج لهذه الحالة المرعبة. حيث تعيش الحكومة في المنطقة الخضراء والشعب في المنطقة الحمراء وما بين الجنة والجحيم سياجات عالية ترتفع لأعنان السماء. الشعب العراقي مغيب بشكل مطلق سواء في الحكومة أو البرلمان, وهو ليس بريئا كليا وإنما يتحمل جزءا غير يسير من مسئولية ما يجري له بسبب إنتخابه لجلاديه الذين برعوا وتفننوا في جلده بأسواطهم الملتهبة. المحزن في الأمر أن السوط صنعه الشعب بنفسه ودفع ثمن مواده من جيبه و قدمه بكل حفاوة وتكريم لجلادية وركع أمامهم بذل وخضوع كاشفا عن ظهره لتلقي الجلدات.
عندما تنتخب مجرما فلا تتفائل بتوبته، وعندما تنتخب لصا فلا تستأمنه على أموالك، وعندما تنتخب مأبونا فلا تأتمنه على شرفك. لكن هذ ما جرى! عسى أن ينفع هذا الدرس القاسي في الإنتخابات القادمة ولكل حادث حديث! في العراق المحتل، الدستور أيضا في وادي وممارسات الحكومة والبرلمان في وادي آخر. ولسنا بصدد مناقشة نصوصه المترهلة طائفيا وعنصريا. ولكن سنشير إلى موقفه من الحريات الأساسية لأنه يخص موضوعنا. فقد جاء في مادة الحقوق المدنية والسياسية/ أولا: النص الآتي" لكل فردٍ الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرار صادر من جهة قضائية مختصة". وفي المادة/35 من الحريات أولاً /أ جاء النص" حرية الإنسان وكرامته مصونةٌ". وفي الفقرة/ب " لا يجوز توقيف أحد أو التحقيق معه إلا بموجب قرارٍ قضائي" وفي الفقرة/ ج " يحرم جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية، ولا عبرة بأي اعتراف انتزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي أصابه وفقاً للقانون" والفقرة/ثانيا "تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني". نصوص جميلة مستعارة لكن قيمتها بقيمة أعقاب السيجاره.
لو طالب الشعب العراقي بالتعويضات عن الأضرار المادية والمعنوية التي أصابته على أيدي الأحتلال والأجهزة الحكومية وخاصة الأجهزة الأمنية. لأعلنت خزينة الدولة إفلاسها ومديونيتها للشعب! ولنطبق هذه الفقرات الدستورية على إعتقال الكاتبة العراقية هبة الشمري! وإسمها هذا مستعار بعد أن إمتدت يد الغدر لتغتال الكثير من الكتاب والصحفيين وأصدرت ميليشيات إرهابية قوائم بأسماء عدد من الكتاب بغرض تصفيتهم في وقاحة لم يكن لنا سابق عهد بها. لذلك قررعدد غير من الكتاب النشر بأسماء مستعارة, وهبة الشمري عضو فاعل في المنبر الوطني المعروف(منظمة كتاب عراقيون من أجل الحرية) فقد أعتقلت خلال آخر زيارة لها للعراق هذا الإسبوع في ظروف غامضة والأرجح بوشاية من بعض الأخوة الأعداء. وأشارت آخر المعلومات بأنها معتقلة في سجن الكاظمية الذي يشرف عليه أوغاد حزب الدعوة الإلحادية. الإعتقال بحد ذاته يمثل إنتهاك للدستور لأنه تم خارج القضاء العراقي!
فما هي جريمة هبة الشمري؟ إنها جريمة بشعة مهولة بكل معايير ومقاييس الإحتلال والعملاء, فهبة الشمري رفضت التقوقع الفكري وسمحت لصوت الضمير أن يخرج من الموجة القصيرة في ذاتها إلى الموجة الطويلة المتمثلة بالجماهير. جريمتها بشعة لأنها تعتصر ألما أكثر من غيرها لجروح شعبها النازفة منذ أول يوم وطأ الغزاة وخدمهم العملاء أرض العراق. جريمتها بشعة لأنها عضو في صرح وطني لا يهادن الإحتلال والعمالة، نذر أعضائه أنفسهم فداءا للوطن على مذبح الديمقراطية. جريمتها بشعة لأن أفكارها قوية كالمصفحات المدرعة، وسلاحها قلم لا يهمد ولا يتعب شوكته حادة لاذعة تصب رصاصا خارقا للإحتلال وحارقا للعملاء. جريمتها بشعة لأنها رفضت بإصرار أن تقف مكتوفة الايدي أمام تصاعد الفظائع في وطنها, وتحدت الرجولة الهامدة بإنوثة صامدة، وشمرت عن ساعدها مع إخوانها المجاهدين ليمهدوا السبيل لايقاظ العقل الراكد وتحويله الى دائرة الفعل والإنجاز الوطني والحضاري. جريمتها بشعة لأنها تجاوزت الحدود المرسومة من قبل حكومة الإحتلال في رفض إفرازتها الكريهة على كل الصعد، فلم تستمريء القطط السمان قيام أنثى بإسقاط ورقة التوت عن عروتها وكشفها للشعب. جريمتها بشعة لأنها تقمصت دور المؤذن الذي يوقظ الناس من نومهم وغفلتهم وينبههم الى صوت الحق والضمير ويفجر طاقاتهم الفكرية ليكسبوا مزيدا من القوة والأمان والأمل. جريمتها بشعة لأنها آمنت بالحركة ورفضت السكون, آمنت بالنصر ورفضت الهزيمة، تلذذت بالمتاعب وتحدت المصاعب، لأنها مؤمنه بالله ومؤمنه كل الإيمان بأنها على حق، إنها تشعر بالإنتصار حتى وهي بين القضبان, كإنها تقول لسجانها إنظر لنفسك كم ذليلة وتافهة وأنظر لنفسي كم عزيزة وكريمة, أنت الرجولة في أحقر مراتبها وأنا الإنوثة في زهوها وأعلى منازلها. أنا سجينة الحرية والتحرر وأنت سجين الإحتلال والعمالة, سجني شرف كبير وحريتك عار كبير. فيا لفرحي بنفسي ويا لبؤسك بنفسك.
هذه هي الماجدة العراقية في أروع صورها تسطر الملاحم البطولية بلا كلل ولا ملل. رأسها مرفوع دائما وأبدا، شامحا كنخيل عراقنا الحبيب. لاتنكسه مهما عصفت الرياح الصفراء وإشتدت. عزيزة بكبريائها متمسكة بهويتها قوية بعزيمتها، لا تخشى في الحق لوم لائم، ولا يحيدها عن حب الوطن رصاصة غادر. إنها الرمز الكبير للتضحية والفداء والبذل والعطاء. عطائها دائم كدجلة والفرات لا ينضب. والله أن القلم ليخر خاشا أمام صبرها اللامحدود وعطائها اللاموصود, وهل من كلمات مهما كانت صياغتها وبلاغتها وفصاحتها يمكن أن تقف أمام جلال قدرها.
كم نحن في حاجة الى ثورة إصلاحية لتنمية الوعي الجماهيري وإنهاء الفساد الحكومي والذي أنعكس على كل مرافق الحياة. كم نحن بحاجة إلى تصحيح الاوضاع المأساوية الي يعيشها الشعب المبتلى بالإحتلال والعملاء, كم نحن بحاجة للوقوف بقوة أمام كل من تسول له نفسه هدر حقوق الشعب والعبث بمقدراته وحرياته الأساسية. كم نحن بحاجة إلى قوانين وتشريعات فعلية وتفعيلها لتحصين الشعب من معاول المفسدين ووضع حدا للغبن الذي ترتكبه الحكومة وأقطابها بحق الوطنيين الشرفاء. كم نحن بحاجة إلى زلزال فكري وثورة ثقافية عارمة تثبت الركائز الحقيقية وتنطلق لبناء الحريات الأساسية. كم نحن بحاجة إلى نساء مثل هبة الشمري. وإلا فحري بنا أن نقف جميعاً دقيقة حداد على موت الحرية التي جرعت السم الزعاف من كأس الجعفري وفاضت روحها بين يدي المالكي.
دعوة لشرفاء العالم وأحراره من منظمات ونقابات وإتحادات ثقافية وصحفية وأدبية وإعلامية وحقوية وإنسانية للوقوف مع هبة الشمري ومطالبة حكومة المالكي بإطلاق سراحها فورا.
كاتب ومÙكر عراقي
www.deyaralnagab.com
|