في حديقة هاينا...
بقلم : رشاد أبوشاور ... 14.3.07
( إلى شحادة الشهابي..هناك في أثينا)
استيقظت مبكّراً، فغسلت وجهي، ونزلت الدرجات القليلة إلى قاعة الاستقبال. حييت موظف الاستقبال، ثمّ خرجت إلى الشارع. توقّفت أمام الفندق على الرصيف، وأدرت نظري في الشوارع المتقطعة، وصوب البحر المختفي وراء الأبنيّة المقابلة، والذي لا يظهر منه شيء إلاّ إذا قطعت الشارع ومشيت قليلاً، لأراه يتمدد
بزرقة باهتة تحت غشاء ضبابي شفيف، ويندغم في فضاء بعيد.
مشيت بضع خطوات، ثمّ دخلت الكافتيريا. وضعت إصبعي على الزجاج، فهمهم مستفسراً باليونانيّة التي لا أعرف منها سوى كلمات قليلة:
مدّ يده في الثلاّجة الزجاجيّة، وأشار بإصبعه إلى فطيرة التفّاح.
هززت رأسي موافقاً وأنا أنحني على واجهة الزجاج، ثمّ وقبل أن يلفّها أشرت له بأنني أريد واحدة ثانية.
لفّهما، وناولني اللفّة، ففردت راحتي بالقطع النقديّة المعدنيّة ومددتها إليه، فتأملها ثمّ انتقى قطعاً وهزّ رأسه مع شبه ابتسامة، وكأنه يقول: تمام.
مضيت إلى حديقة (هاينا) التي عرفتها أمس مساءً عندما عدت من قاعة الندوات. دخلت وجلست، مددت ساقي وتمطيّت متخلّصاً من كسل النوم، وبعض تعب الأمس.
حضر النادل، فطلبت منه أن يحضر لي شاياً وماءً...
أمضغ قضمات من الفطيرة متلذذاً ببطء ،متأمّلاً ما حولي. فردت دفتري وأخذت في كتابة ما أراه
في الحديقة: أشجار ضخمة مختلفة بعضها ينبثق عالياً في الفضاء، وبعضها يميل من ثقل أغصانه.
حمام يهدل، يكرج على الحصى المفروش على أرض الحديقة. قطّة تمّط جسدها وهي تتقدّم متسلبدةً، متهيئةً للانقضاض على الحمامة التي تكرج بسرعة، ثمّ تطير مرفرفة على علو رغم انخفاضه فإنه يحميها من تربص القطّة...
رفعت رأسي وأنا أسمع صوتاً ولمسة على كتفي :
_ أهذه لغتكم؟
_ نعم
أتكتبون من اليمين إلى الشمال؟
_ نعم...
هل تقرأ لي ما كتبت؟
العجوز نحيلة، وجهها لطيف، ابتسامة أليفة تضئ وجهها.
قرأت لها بانكليزيتي المتواضعة: في حديقة هاينا، قطة تلعب مع حمامة، الحمامة تطير، والقطّة لا تيأس، تنتظرها أن تهبط من جديد.. ماذا تقصدان؟! أمس رأيتهما واليوم أيضاً. قطة وحمامة في حديقة هاينا، تلعبان رغم أنهما ليستا من جنس واحد، ما أحلى لعبهما المسلّي...
ابتسمت وقالت :
_ أنت عربي؟
_ كيف عرفت؟
_ قرأت لكازانتزاكي أن العربي عاشق...
ربتت على كتفي، ابتعدت بخطى بطيئة متثاقلة. جلست مسندة يدها على الطاولة، مركّزةً نظراتها على باب الحديقة.
جلست صامتة، في وجهها وحركة جسمها وهيئتها انتظار..
من البوّابة دخل رجل بدين، في يده اليمنى كيس، وفي اليسرى مجلّة...
نهضت لاستقباله، اقترب وأخذها بين يديه هي الضئيلة الجسد، وجلسا يحكيان معاً في نفس الوقت.
نظر صوبي ورفع يده محيياً فأحنيت رأسي وقلت له:
_ good morning
رّد بوّد :
_ good morning
أخرج ما في الكيس، مدّ لها يده بقطعة كرواسا. كان يحكي وهي تأكل وتضحك بفرح، يبدو أنهما لم يلتقيا منذ الأمس، وربّما قبل الأمس.. من يدري؟!
تساءلت : ألا يعيشان معاً؟ أهمها عاشقان قديمان؟!
رفرفت الحمامة وارتفعت بضربات جناحيها، والقّط أخذ هيئة النمر، وانسيابيّة حركته، وأنا واصلت الكتابة من اليمين إلى اليسار، عن أشياء في حديقة مدينة (هاينا)، في جزيرة كريت اليونانيّة..
العجوز نهض واتجه صوبي، مدّ يده الكبيرة، ولفظ اسمه:
_ سقراطوس..
أنا أجبته وأنا أقف :
_ رشادس...
ضحك لأنه عرف أن الإس ليست من اسمي، وطلب أن يرى كيف أكتب من اليمين إلى الشمال، ففتحت دفتري وكتبت تحت نظراته المندهشة كلاماً عن رجل يوناني بدين في حديقة هاينا، التقى بصديقته التي أخبرته عن العربي الذي يكتب من اليمين إلى الشمال، وهو يشرب الشاي ويأكل فطيرتي تفّاح، ويراقب قطّة وحمامة.
هزّ رأسه وهو يقول :
_ عجيب أمر البشر، إنهم يتكلّمون لغات كثيرة، يكتبونها من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار..
_ ولا تنس يا سيّد سقراطوس أن هناك من يكتب لغته من فوق إلى تحت...
_ من يفعل هذا؟
_ الصينيّون يا سيّد سقراطوس...
_ آه الصينيّون..أنا لم أر صينيّاً في حياتي، سوى في السينما...
وضحك حتّى اهتّز جسده.
ربت على كتفي، ومضى إلى عجوزه التي نادته:
_ يكفي يا سقراطوس، لقد أزعجت العربي...
أمّا العربي الذي هو أنا فقد أخذ يخربش كلمات لا صلة بينها، ثمّ انهمك في رسم امرأة ورجل حول طاولة خضراء، يجلسان تحت شجرة وارفة، و..حمامة تعلو فوق رأس قّط، ورأسها يميل إلى الأسفل كأنها تتدلل على القّط غير خائفة منه، بينما هو ينظر إليها نظرة رجاء أن تهبط إليه لأن عنقه توجعه من شدّة لويه لها.
السيّد سقراطوس البدين، نهض واتجه صوبي بهدوء، بوجه مرح، ومدّ يده بقطعة كرواسا، دون أن ينطق بكلمة تكتب من اليمين أو اليسار...
--------------------------------------------------------------
* من المجموعة القصصيّة( سفر العاشق) التي ستصدر قريباً عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر _ بيروت.
www.deyaralnagab.com
|