logo
القدس لا تُحرّر بالنقود!!

بقلم : رشاد أبو شاور  ... 31.03.2010

فقط في خطاب رجب طيّب أردوغان حضرت القدس حضارية، ودينيّة، وإنسانيّة، وعربيّة، وإسلاميّة، و..قضيّة تركية محليّة شديدة الخصوصيّة.
وقف الرجل شامخا، مهيبا، يليق بتمثيل بلده العريق، وبعظمة الدور الذي يطمح أن تحتله تركيا بقيادته هو وحزبه، انطلاقا من أن المجد ينتظر من يغذّ السير إليه، ويدفع تكلفته، وينهض بأعبائه.
كم وددت لو يقف أحد من الصحافيين العرب المستفزين مما يرون في مؤتمر القمّة الـ22، أو أحد أفراد الجمهور الليبي المحشود في القاعة، ليهتف انطلاقا من وجعه وقهره كعربي: عاشت القدس قضيّة تركيّة!
في الخطاب العربي الرسمي، بما في ذلك خطاب رئيس السلطة عبّاس حُكي عن القدس بحياء، بوهن، بحذر، خشية أن تستفز الإدارة الأمريكيّة، بل أُثني على تلك الإدارة، ولم تدن (حكومة) نتنياهو جميعها، ومسّ زحفها الاستيطاني بأرق العبارات وأهدئها، فمن يرفع صوته، ومن يكبّر حجره، ومن يتوعّد، سيفتضح أمره إن لم يكن على قدّ الكلام.
القدس في خطاب أردوغان بدت حدّا فاصلاً بين (السلام) في (المنطقة) - يا الله كم أكره هذا المصطلح الجبان المتهرّب من تسمية بلادنا بالوطن العربي- و..الحرب، والفوضى، والصراع، وكّل ما سيؤثّر على العالم كلّه، فا(الكدس) كما كرر لفظها القائد التركي، وريث أمجاد إمبراطورية آل عثمان، لم يوجه خطابه (لعربان) القاعة الذين بدا نصفهم نائما، وربعهم يتهامس، والبقيّة تتشاغل بشرب الماء والعصائر، والمضغ ..ماذا يمضغون يا ترى؟! كلاما يخشون البوح به، أم انهم يستعيدون مواقفهم السابقة ويتهيأون لقذفها على رأس الأمة التي ما عادت منذ زمن بعيد تنتظر منهم شيئا!
لقد بدا الأمر وكأننا نشاهد نقلاً حيّا (للهايد بارك)، حيث يصعد الخطيب على منبر ويبدأ في الصراخ مُدينا لشيء ما، أو داعيا لفكرة ما، أو مروّجا لقضية ما من قضايا المظلومين في العالم .
الحكّام العرب في هايدباركهم يشكون ..تصوروا؟ (قادة) الأمّة يشكون ..يعني يسرقون منّا الشكوى، واللطم، والندب، والاحتجاج!
هم لا يفعلون هذا صدفةً، لا، إنهم يُضللوننا حتى لا ندينهم، وهم يستهبلوننا، ويستدرون دموعنا لنشفق عليهم، ونتأوه مع شكاواهم، ثم نبرئهم من تهمة التقصير التي تلبسهم منذ اغتصبوا كراسيهم.
إذا كنتم تشكون وأنتم (قادة) الأمّة، فماذا نفعل نحن الجماهير؟!
يبدو أننا سبب الهزائم، وضياع القدس، وجشع (دولة) المستوطنين الذين يستبيحون فلسطين منذ العام 48، ويدمّرون معالم القدس، ويزيفون وجهها العربي الإسلامي والمسيحي!
تمخضت نُصرتهم عن وعد بالتبرع بمبلغ 500 مليون دولار للقدس!
كل هؤلاء القادة، كل المليارات النفطيّة وغير النفطيّة، تتبرع بهذا المبلغ التافه لإنقاذ القدس!
موسكوفيتش الصهيوني صاحب أندية القمار، يجمع المليارات في أمريكا، ويحضر كل عام إلى القدس ليدعم الاستيطان، جاعلاً من (تهويد) القدس قضية حياته..وأنتم عرب ومسلمون وتحت أيديكم المليارات، والقدس تنتخي بكم لتنقذوها، لتثبيت أهلها في بيوتهم، وتمكين أطفالهم من التعلّم في مدارس لائقة، وشغيلتها من إيجاد عمل يدرّ ما ينفقونه على أسرهم الصامدة رغم حفر الأرض من تحتهم، وهدم البيوت على رؤوسهم!
موسكوفيتش يتبرع بالمليارات، وأنتم نسل الكرام الأشاوس ..جميعكم ..تدعمون صمود القدس بهذا المبلغ التافه!
و..هذا المبلغ لن يصل لأهل القدس، فأنتم لكم سوابق في مثل هذا التبرع. ألم ترصدوا لإعمار غزّة ملياري دولار؟! أين هي؟ّ ولا قرش وصل إلى أهل غزّة، ولا كيس إسمنت..وكيف يصل الإسمنت وسور مبارك (العظيم) يترصّد الفلسطينيين في عمق الأرض، وأبراجه الأعلى من بُرج فرعون ترتفع مترصدة تحركات الفلسطينيين..فمصر المحروسة جعلها حاكمها حارسة لمصالح أمريكا وأمن دولة الصهاينة!
فقط رجب طيّب أردوغان ذكّّر بأن أهل غزّة يعيشون في العراء، وأن هذا عار على الإنسانيّة كلها.
أليس هذا العار عارا عربيّا يا أصحاب الفخامة، والسيادة، والسمو؟
من قبل اتخذتم قرارا بفك الحصار عن غزّة، يوم ذبحت أسرة (هدى غالية) على شاطئ البحر، ولكنكم نفّستم غضب الجماهير، وعدتم إلى ديدنكم المعهود: مواصلة حياتكم كحكّام، وإدارة الظهر لكّل قضايا الأمّة، وفي مقدمتها فلسطين وعاصمتها القدس التي تتبارون في التشدّق بأنها أولى القبلتين، وثالث الحرمين.
يا لكم من مؤمنين أتقياء ورعين طاهري الذيول!
وهذا أيضا مؤتمر قمّة تهرّب من المسؤولية القوميّة، وما إعلانكم عن أن الدورة هي دورة صمود القدس سوى استهلاك يدغدغ عواطف ما عادت تستثيرها وعودكم الخُلّب.
بالمناسبة، حتى عيونكم لم تبتل بالدموع وأنتم تتحدثون عن القدس وقدسيتها، بينما زفر أبو عبد الله الصغير وبكى وهو يرسل نظرته الأخيرة إلى غرناطة..وكأن أمه وهي تزجره مدينة تقاعسه، كانت تعنيكم:
ابك مثل النساء مُلكا مضاعا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
دورة القدس تكون على قّد نداء واستغاثة وأهميّة القدس، وهذا لا يكون برصد مبلغ تافه يملك كثير منكم أضعافه في أرصدته الشخصيّة في البنوك الأمريكيّة التي أفلست، والتي شفطت المليارات العربيّة النفطيّة، دون أن تحتجوا على تبديد (ملياراتكم)!
القدس عبر العصور لم تحررها الفلوس.
القدس حررتها السيوف..فصلاح الدين لم يكن صاحب مليارات نفطيّة!
القدس ليست الصراع كله، إنها فلسطين التي يتواطأ عليها خطابكم الرسمي بتغييبها، وبالإقرار بأنها (إسرائيليّة)، وإلاّ كيف تفسرون أن القدس التي تطالبون بها هي القدس الشرقيّة، وأن الدولة التي تريدونها هي في حدود حزيران ..67هل أبقى نتنياهو وأسلافه أرضا لدولة؟!
من يتحدث عن عاصمة فلسطين في القدس الشرقيّة يكفر بقدسية القدس وقدسية فلسطين، وقدسية الحق العربي في فلسطين، ويقدّم التنازلات تلو التنازلات، ويتمنى لو تنتهي القضية الفلسطينيّة اليوم قبل الغد، ليتخلّص من الإحراج، وصداع فلسطين والقدس و..المقاومة.
مؤتمر قمّة العجز الذي تلطّى في دورته البائسة الـ22 باسم القدس، لن تنطلي قراراته على شعب فلسطين، ولا على ملايين العرب والمسلمين.
خطاب رجب طيّب أردوغان كان فضيحة للعجز الرسمي العربي، ومؤتمرات القمّة العربيّة التي ما عادت لها قيمة بعد رحيل القائد جمال عبد الناصر، وإخراج مصر من دورها، وتشريع أبوابها للفساد والنهب، منذ بدأ السادات مسيرة كامب ديفد التي كرّست فرقة وضعف وتبعية نظم حكم عربيّة تخلّت عن عروبتها.
أهل فلسطين كافة، داخل وطنهم المحتل وفي الشتات نفضوا أيديهم منذ زمن بعيد من هذه (القمم) البائسة، وهم اعتمدوا على أنفسهم، وهم يدركون أن القمميين هؤلاء هم سبب رئيس في تبديد انتفاضاتهم، وثوراتهم، بالتآمر الصريح، والخبيث السرّي ..المفضوح!
ليس للفلسطينيين، ومعهم ملايين العرب في كل أقطارهم، سوى نفض حالة الانحطاط والضعف والتبعيّة والتخاذل العربيّة الرسميّة، والاعتماد على أنفسهم، ففلسطين ليست قضية الحكّام العرب، ولكنها قضية الأمة بملايينها، وطريق جماهير العرب إلى فلسطين نقيض طريق هؤلاء الحكّام...
لهم دينهم، ولنا دين، لهم كراسيّهم التي هي سبب ضعفنا وهواننا وتبديد قوتنا..ولنا فلسطين الواحدة ودرّتها القدس الواحدة شرقيّة وغربيّة، القدس التي لن تحررها أموالهم التافهة، القدس المرويّة بدماء قلوب الفلسطينيين، القدس التي يشع نورها من فلسطين ليضيء قلوب المؤمنين بوحدتها وكمالها وهديها...
لنا القدس الواحدة جوهرة فلسطين ومنارتها، هكذا كانت ..وهكذا ستبقى لنا دائما، نحن بُناتها وحُراسها، نحن صخورها وسيوفها...


www.deyaralnagab.com