الحل العلماني في العراق ورؤية الإسلاميين!!
بقلم : د. خالد الحروب ... 07.04.2010
في تعليق بالغ الأهمية على نتائج الانتخابات العراقية وفوز قائمة "العراقية" العلمانية على بقية القوائم الطائفية يقول راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية الإسلامية: "ستظل التكوينات العلمانية المنفتحة أصلح لحكم العراق، إلى أن تنجح الأحزاب الطائفية في الارتقاء بفكرها من المستوى الطائفي المنغلق إلى المستوى الإسلامي المنفتح على كل مكونات مجتمعاتنا المذهبية والدينية والعرقية، على أساس مبدأ المواطنة والاشتراك في برنامج وطني لحل مشكلاتنا منبثق من اجتهاد يستند إلى مرجعية أمتنا الإسلامية الحضارية التي تشترك فيها كل مكونات الجماعة الوطنية، فكلها مسلمة بالعقيدة والحضارة أو بالحضارة.
المنزع الديني الطائفي جعل من المستحيل نشوء حزب عراقي فوق طائفي .... وهو ما حملني يوما وأنا أمازح صديقيَّ الدكتور إبراهيم الجعفري والدكتور أسامة التكريتي يوم كانا زميلين في المهجر قبل انخراطهما في العملية السياسية، إذ سألت زعيم حزب الدعوة: العراق متعدد، فهل في حزب الدعوة مكوّن غير شيعي؟ فأجاب بالنفي، وهو نفس جواب ممثل الحزب الإسلامي عندما سألته: هل في الحزب الإسلامي مكوّن غير سني؟.. حملني أن أقول مازحا: يبدو أن حزب البعث -على دكتاتوريته البغيضة- أصلح لحكم العراق إذا أردنا أن يظل هناك وطن اسمه العراق، لأن البعث المجتث كان يتوفر على كل المكونات العراقية: سنة وشيعة وأكراد ومسيحيين.. صدام وسعدون حمادي وطه ياسين وطارق عزيز."
أحد الجوانب الإيجابية في الانتخابات العراقية الأخيرة أن المزاج العام الأعرض في المنطقة, ويتضمن ذلك للغرابة كثيرا من الإسلاميين, تمنى أن يفوز بها إياد علاوي وقائمته "العراقية" التي اخترقت الحدود والتصنيفات الطائفية على قاعدة علمانية.
انخراط قوى ورموز سنية (إخوانية سابقاً) مثل طارق الهاشمي وحزبه "تجديد" تحت قيادة علاوي (الشيعي). وثاني تلك الجوانب الإيجابية تمثل في أن معظم إن لم يكن جميع الأحزاب بما فيها الأكثر طائفية وتزمتا رفعت شعارات وطنية عامة وقدمت نفسها لجمهور الناخبين على أنها تمثل العراقيين كلهم وليس طائفة أو شريحة دينية منهم.
في انتخابات 2005 فاز بالغالبية الكاسحة ما عُرف آنذاك بـ "التحالف الشيعي" الذي ظفر بـ 140 مقعدا مقابل 40 مقعدا حصلت عليها قائمة علاوي "العراقية".
الانتخابات الحالية قوضت "التحالف الشيعي" وتقدمت الثقافة السياسية في العراق شوطا مهما إلى الأمام إذ أصبح التداعي تحت شعار ديني أو طائفي أمراً مرذولاً, حتى وإن كانت القوى والأحزاب الكبرى ما تزال تركز على قواعد طائفية في الدعم الأساسي الذي تحظى به.
تجربة السنوات الخمس الماضية أثبتت لأعداد متزايدة من العراقيين, سنة وشيعة, أن الأحزاب الدينية التي تُقحم الدين في السياسة وتستغله لتحقيق أهداف سياسية تدمر ما تبقى من النسيج الاجتماعي في العراق ولا تصلحه.
درس الأحزاب الدينية العراقية يتعدى العراق ويعزز الخلاصات المريرة والمأساوية لتجربة الأحزاب الدينية في دول أخرى وخاصة إيران والسودان والعراق وأفغانستان خلال حكم حركة طالبان.
وهو أيضا درس القناعة المتسعة بأن حقل السياسة والاجتماع السياسي مليء بالألغام التي تنفجر تحت أقدام الأطروحات الدينية, وأنه من الأكثر أمانا للسياسة والمجتمع والدين أن يتم الانخراط في ذلك الحقل بأطروحات علمانية.
هذه الخلاصات تؤكد جميعها على أن جوهر برنامج الأحزاب الدينية القائم على خلط الدين بالسياسة فاشل وغير عملي ويقود المجتمعات إلى مزيد من التفتت الداخلي, ولا يحقق الطوباويات التي ترفعها وترددها شعارات الحركات الإسلامية مهما كانت.
وتؤكد على ضرورة أن تقوم الحركات الإسلامية الحالية بمراجعة مُعمقة وجذرية لكل أطروحة "الإسلام هو الحل" والتي تُستغل عاطفيا وشعبويا من أجل تجييش جماهير لا تدري أن الحركات والقادة التي تنتخبهم لا يملكون حلولاً ولا ما يحزنون.
ما يتمناه راشد الغنوشي من قيام توافق على "أساس مبدأ المواطنة والاشتراك في برنامج وطني لحل مشكلاتنا" لا يمكن أن يتم في الواقع إلا بعيدا عن الحزبية الإسلامية التي يترأس أحد تشكيلاتها.
الإضافة والمميز شبه الوحيد الذي يمكن القول إن بعض الحركات الإسلامية أثبتت أنها أفضل من غيرها فيه هو نظافة اليد و انخفاض مستويات الفساد المالي والحفاظ على المال العام.
لكن هذا الجانب وعلى أهميته القصوى لا يمثل كل السياسة والإدارة العامة, هو جانب واحد منها فقط.
إضافة إلى ذلك فإن بالإمكان ضمان نظافة اليد ومحاربة الفساد بطريقة فعالة وحقيقية عندما تترسخ البنية الديمقراطية وآليات المحاسبة البرلمانية والتشريعية وتتعزز سلطة واستقلالية القضاء.
وعمليا وإنسانيا فإن وضع آليات محاسبة شفافة وقوية هو أفضل ألف مرة من الاتكاء على حسن نية وأخلاق السياسيين.
فحتى أولئك الذين يدافعون عن أنفسهم وسياساتهم بكونها تعتمد على الوازع الديني فإن الفساد طال كثيرا منهم (في إيران, والسودان, والعراق كما تؤكد التجربة المتراكمة).
بعيدا عن ذلك يمكن القول بأن ليس هناك أي إضافة حقيقية أو برامجية يمكن أن تراكمها الأحزاب الدينية إلى تطوير الاجتماع السياسي في بلداننا.
وهنا لا حاجة بنا للانخراط في سجال وجدل نظري, ذلك أن أمامنا تجارب عملية توفر لنا أدلة وشواهد يمكن أن نقيس عليها ونستنتج مقادير النجاح والفشل.
مجتمعاتنا التي تشكلت وما زالت تتشكل في دولة ما بعد الاستقلال الحديث ما تزال تبحث عن بوصلتها الجماعية, ومصالحة الولاءات المتناقضة القبلية والطائفية والطبقية.
وما تزال مسألة المواطنة والعلاقة مع الدولة وارتهانها لتطور بشكل ديمقراطي وحر حقيقي في مرحلة التكون.
وفي وجه هذا التكون تنتصب معضلات لا أول لها ولا آخر ولا حاجة للتفصيل فيها, لكنها تنتظم تحت عناوين استبداد النخب الحاكمة, وضحالة تفكيرها بالتركيز على صلابة مؤسسة الدولة وانتهاك حقوق المجتمع, والتبعية السياسية والاقتصادية التي قوضت شرعية أي مشروع, إضافة إلى التدخلات الغربية التي لم تتوقف طيلة القرن الماضي.
في مواجهة هذه المعضلات وغيرها كثير أضاف الإسلاميون مجموعة أخرى من التحديات والانقسامات وتذرية الولاءات.
انطلق أولا من مربع الإدانة والاحتقار لمشروع "الدولة الحديثة" باعتبارها من مخلفات الاستعمار, وأنها تُركت لتكريس التجزئة والحيلولة دون إقامة وحدة ليس بين العرب وحسب بل وبين المسلمين كلهم.
وقد تربت أجيال عريضة وعلى مدار عقود طويلة على هذه الفكرة الاحتقارية والاستعلائية ضد فكرة الدولة, والتي استعيض عنها بمشروع هلامي طوباوي لم يتجاوز التنظير المكتبي يدور حول "الدولة الإسلامية". لكن ما لبثت حركات الإسلام السياسي نفسها أن انخرطت في مشروع الدولة نفسه, وأمام صلابة وجبروت الواقع والسياسة التي تهزم أية أيديولوجيا وجد الإسلاميون أنفسهم يخفضون من سقف اليوتوبيا إلى سقف الدولة الأمة.
وأصبحت الأحزاب والحركات الإسلامية محصورة أكثر وأكثر في إطار دولها, وتؤكد مرارا وتكرارا عدم تدخلها في شؤون الدول المجاورة.
بل إن كثيرا من الحركات وأمام هول السياسة والصراعات والقمع وجدت نفسها تتحالف مع حكومات قامعة لحركات إسلامية شقيقة.
وليست تجربة الإخوان المسلمين في سوريا وتحالفهم مع صدام حسين البعثي ضد حكم حافظ الأسد البعثي المتحالف مع حركة حماس الإسلامية التي أثارت حنق أشقائها الإسلاميين السوريين إلا واحدة من عشرات التجارب الحبلى بالدروس.
لكن أهم هذه الدروس هو أن الانخراط في وحل السياسة بمثاليات الدين له تأثير باتجاه واحد وهو نقل تلك الأوحال إلى الدين, ولم يحدث أن رأينا العكس أي النجاح في نقل مثاليات الدين إلى السياسة.
الدليل الأكبر أمامنا يتمثل في التاريخ، وفي الحالة الإسلامية فإننا أمام تجربة بالغة الغنى في تاريخ الخلافة والدول والإمارات الإسلامية تؤكد على جبروت وأولوية السياسة, وأنه في الحالات التي استخدم فيها الدين لتسويغ أهداف سياسة فإن الاثنين يخسران.
www.deyaralnagab.com
|