تأسرني عمّان و(أي غصنٍ على شجر)*!!2-2
بقلم : زياد جيوسي ... 17.03.2010
هي عمّان ما زالت تأسرني، وما زلت أواصل التجوال في دروبها، وما زلت أرى أنها (واقفةٌ قبالة الشمس تماماً مثل أغنية)، وما زلت أبحث فيها عن وجه حبيبتي الذي غيبته عني السنين وأصرخ: ترى من يعيد لي وجه حبيبتي التي افتقدت؟ فلا أرى في البعاد إلا (حرائق تجوس أحداق المسافة)، فتشدني عمّان من حضن رام الله وآتي يملأ روحي الحنين (من هناك إلى هنا) وفي قلبي (نواح الغيم وسهوة الأشياء)، فأراك بروحي حباً (بلونٍ يمتطي فيّ الغيم)، وفي عينيك اللتين ترقبان عن بعد رحلة بحثي (صار المدى لوزاً)، وفي ذكراك (صار الليل موفور الضياء)، رغم أنه في البعد قد (عزَّ اللقاء).
أجول عمّان دروباً وأدراجاً تتسلق التلال، توصل بين الأحياء، أبحث عن وجهك لعلي ألتقيه، فتتعب أنفاسي بحكم العمر، طول رحلة البحث، فأسائل نفسي: هل (من امرأةٍ في هذا العالم) غيرك، كانت وستبقى (ضوء الأوطان حين يعزّ الضوء)؟ فأجيب نفسي: وهل إلاك إمرأة تتجسد في عروس المدن آتية (من جرار الغيب)، وحباً كان وسيبقى (أغنية القصيدة)؟ فيخيل إلي أني أسمع من البعيد البعيد روحك من (وراء الغمام) تهمس: (يا برقاً عمَّرت في السهو صحوي) فمن غيرك (ضوؤكَ الفضيُّ أغنية لها في الروح نخل باسقٌ)، وله (يدان من ورد الكنايةِ تسرف بالسلام)، فتهمس عمّان بقلبي: لا تتوقف عن البحث (أشعل بسفركَ لبّها وأعطِ مكاتيبَ الغواية للحَمامْ).
في عمّان أحن إلى الطفولة، فأذكر حين (أخبرني جَدي عن شجرٍ يخلع خضرته في الليل ليمشي)، فأتسلل من حضن أمي إلى البيادر التي تحيطنا في بدايات نشأة الأشرفية، حين لم يكن هناك تيار كهربائي ولا نجد سوى ذبالة فانوس نراه (يُيمُّ صوب نجوم)، فأخرج لأبحث عن الشجر، فلا أرى إلا بيادر قمح (تلثم قارعة الرمل)، وفي البعيد (ذاك الشجر يسير مع النجم غصنا بشعاع)، وفي العصارى أتسلل لأنظر حقول القثاء وورد الربيع المنتشر على السفوح فأشعر أن (لي قلباً محاطاً بالبروقِ وبالندى)، وفي عمّان تعيدني الذاكرة إلى حي الملفوف، حين كنت أنظر للسيل الذي كان نويهر يشق المدينة، فأرى الشمس تعكس عليه (من انكسار الحلم خمرَ الصدى)، وفي حي خرفان كنت أرى (في سهوة الغيماتِ شِعراً وقمحاً) وأذكر نفسي طفلاً (وهو يعبث بالمدى)، وأستعيد ذاكرة الكرك بما تركته تلك المرحلة الطفولية في روحي (من قلقٍ ومن وجعٍ ومن فرحٍ ومن حب وموت)، فهل مثل عمّان من يعيدني إلى الجمال والماضي الجميل (كلما ضَجَّ اكتمال البدر في سقف الدجى)؟.. فهل كنت أحلم بكِ بخيال طفولي يحلم بالغدِ؟
آه يا حباً (يؤشر للمدى للشمس كي تهمي على عَرقِي تفاصيل الدفء)، كم أشتاق للقياك، حتى يمكنني أن أزيل الوشم الأزرق عن بياض الثلج، فأنتَ وحدكَ من (ستزرعني غناءً)، فتعال من بعادك (لتقولَ أخضَرها الموارسُ في سهوب الروح)، فعند حضورك فقط (تجيء من قمم الجبال أيائلُ ممهورة بالصحوِ)، ويحلق قلبي (في مجرات الكلام يَثمُل بالشهيق وبالبريق)، فقد كنت وما زلت (في رحيق الوجد حبلاً من وريد العينِ)، وحبك وحده من زرع (في دمي ورداً لكل العاشقين)، وأنا وأنت وحدنا (عاشقان استفاضا في المسيرِ دون أن يريا نحول النجمِ في وجه المياه)، ووحدنا من كانا (يتجهان للقمر المأرجحِ في التلالِ)، وأرواحنا تحلم أن (ترضع في هزيع الحبِ ما يخفى على المطرِ).
هي عمّاني التي فارقتها طفلاً إلى رحاب القدس ومن ثم رام الله، فسكنتني رام الله أربع سنوات حُبها (رسمَ قلباً مُضاء) ولم تفارقني القدس التي حرمت منها منذ ذلك الزمان وبقيت (على محمَلِ العشق لقلب قرب شريانك)، حتى أتت أقدام همجية (تعصفُ بي رمالٌ من صحارى القيظ)، فضمتني عمّان بحضنها من جديد وأسقت روحي (كأس النَّضارة والاخضرار)، رغم أنها كانت (واحة منكوبة بالحزن)، لكنها (نهضت وكان عُريُّها ضوءاً)، وغمرتني بحنوها ثلاثين سنة أخرى قبل أن ترافقني إلى حضن رام الله من جديد، فكانت عمّان (وحدها تعرف كيف تنقشع الضآلة من مداي)، ومن على التل المرتفع أتت بكِ فعلمتنا كيف (يقرأُ كل منّا في روح الآخر، كيف يُساقط غايتَهُ الشّعرُ)، وزرعت في أرواحنا الحلم و(شنانيرَ مُحمَّلة بالأقحوان)، وهمست بأذني: انهض (خفيفاً من الوجع المجنَّحِ في المدى)؛ واصل المسيرة فهناك حبيبة (ستسمعها على حدّ النعاسِ تقرأ ما حفظتَ من القصائدِ لك)، فتهمس روحكِ لي من البعيد: جمال أيامي من فرحك، فاجعلها دائماً حلوة بفرحك؛ فأصرخ: (الآن الآن أحببت).
تشتد الريح في عمّان ويهطل المطر بقوة، لكني أتحدى الريح والمطر وأقرر أن أرافق روحك وولدي إلى مأدبا، فقد أردت أن أرى هناك في تلك المدينة (كم من الوقت يغفو على كتف الغزالة)، وألتقي بعد الغياب مدينة (تعزف طقسها الفضّي في الطرقات)، فأصلها والريح تشتد وكأنها تبشر أن (هناك أمطاراً تَشِي بالعاشقين)، فألتقيها (امرأة أبلغ من أنثى)، تربض هناك على التلال المواجهة للقدس (تخدش طَود الصمت، تهمس للماء)، وتحلم باللقاء مع الأنوار الغربية خلف التلال، فمأدبا بطيبتها وأهلها رغم الغياب الطويل وجدتها (تبحر في عروقي نجمةً)، ورأيتها (تعرف أن لي قلباً إذا غابت تسربل طقسه رملاً)، فهي كانت ولم تزل (وحدها مخضبةً روحها بالزيزفون)، وفي ملتقاها الثقافي كانت (تعرف كيف تزرعني حماماً يشبه في الظهيرة بحة النايات)، وفي أمسياتها بين أهل وعشيرة كان لها (في المساءات طعم الوتر).
في مأدبا وفي رفقة الشّعر والشعراء والأدباء كنت أشعر بروحك حبيبتي سيدة أرواح (النساء اللواتي على ضفة النهر طوحن للشمس المناديل)، وكان حنا قنصل ابتسامة (في غناء العاشقين)، وراشد عيسى (ما تبقى من ضلوع القمح)، وعلي شنينات روح قادمة (من أعلى مفازات الشهيق)، وجلال برجس (اعتلى وجه الحياة بلهفة غجرية للعشق)، وكل الذين شاركوني فرحة اللقاء كان كل منهم (بالعشق تغدو روحه)، فصرت أنتِ ومأدبا (وتراً) لن (تفارقه الأنامل ويهجره الغناء).
أعود على مركب الريح إلى عمّان وأنا أهمس لمأدبا في لحظة الوداع (شكراً لعابرة لبست رِعاشَ النجم من أجلي)، وأنظر باتجاه عمّان وأهمس تحت المطر (شكراً لها) فهي التي (تنوي إضاءة عتمتي الحُبلى)، وأستعد للقاء رام الله لقاء (سأبقى أفتش فيه عن وطني)، وأناديها قائلاً: سنلتقي (فتمتلئ المآقي بالغيوم والمطر)، وأهمس لروحك الساكنة البعيد: أحلق في أشباح الغيوم وأحلم بفجر منتظر، ليلتك طهر قطرات المطر، فأسمع همساتك مع الريح: سأشعل لك شمعة؛ وإن لم تكفِ أشعلت لك قلبي لترى حبي، عسى أن يطفأ حزنك، ولو كنت أمتلك نفسي لمددت أصابعي ومسحت دمعك، فأهمس: لنصبر فروحك (كمثلي تماماً صابها القهرُ)، وسألتقيك يوماً (كفراشة في البال).
* كلّ ما هو بين أقواس للشّاعر جلال برجس ، من مجموعته الشّعريّة "كأيَّ غصن٠على شجر"، 2008م.
www.deyaralnagab.com
|