logo
الديموقراطية الفلسطينية مؤجلة إلى إشعار آخر!!

بقلم : نقولا ناصر* ... 14.06.2010

بالرغم من الدعوات المتكررة إلى عدم إجراء الانتخابات المحلية الفلسطينية في ظل الانقسام السياسي والانفصال الإقليمي وما تمخض عنهما من نتائج سلبية ملموسة على الحريات العامة، المحدودة أصلا في ظل الاحتلال، كررت الرئاسة الفلسطينية ومنظمة التحرير وحكومة سلطة الحكم الذاتي في رام الله والفصائل المؤتلفة في إطارها وبخاصة حركة فتح الإصرار على إجرائها باعتبارها استحقاقا دستوريا ومطلبا سياسيا وحاجة خدمية، كما قالوا جميعهم، لا علاقة لها بالتوافق الوطني والمصالحة السياسية. لكن بعد ثلاثة أيام فقط من بيان رسمي أصدرته حكومة د. سلام فياض بعد اجتماعها الأسبوعي برام الله في السابع من الشهر الجاري كرر التأكيد على إجراء هذه الانتخابات في موعدها المقرر في السابع عشر من الشهر المقبل، قررت هذه الحكومة نفسها بناء على مرسوم رئاسي تأجيلها إلى إشعار آخر غير مسمى بينما رفض د. غسان الخطيب رئيس المركز الإعلامي الحكومي الحديث عن أسباب هذا الانقلاب المفاجئ في الموقف، في تخبط أصبح مألوفا في القرار السياسي لمنظمة التحرير وحكومتها يقدم مثالا جديدا على أن الديموقراطية الفلسطينية سابقة لأوانها في ظل الاحتلال وأنها سوف تظل مؤجلة إلى إشعار آخر طالما ظل الاحتلال قائما.
وكما في العراق كذلك في فلسطين، وفي تزامن لافت للنظر، رفعت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج دبليو. بوش شعار "الديموقراطية" مدخلا يسوغ تغيير الأنظمة السياسية بالقوة القاهرة، لكي تستخدم الشعار والنظام الجديد معا آليتين في خدمة الاحتلال، لإطالة عمره وتجميل صورته.
وفي فلسطين بخاصة كان تغييب المؤسسات التمثيلية للشعب الفلسطيني شرطا مسبقا أساسيا لتمرير اتفاقيات أوسلو، وطبقا لهذه الاتفاقيات تم النص على إجراء انتخابات تنبثق عنها مؤسسات تكون مرجعيتها هذه الاتفاقيات نفسها وليس منظمة التحرير الفلسطينية أو ميثاقها، لا بل جرت محاولة تغيير ميثاق المنظمة لينسجم مع هذه الاتفاقيات، لتتحول هذه الانتخابات والاتفاقيات نفسها إلى مصدر لشرعية القيادات الفلسطينية بدل "الشرعية الثورية" لمنظمة التحرير المفترض أنها مستمدة من "التحرير" والمقاومة.
ومن الواضح أن هذه "الديموقراطية الانتخابية" لا علاقة لها بأي نظام ديموقراطي أو بالديموقراطية كطريقة حياة، بل هي مجرد آلية من آليات إضفاء شرعية على الوضع الفلسطيني الشاذ الذي انبثق عن اتفاقيات أوسلو، وعلى رموزه وقياداته، غير أن المفارقة أن المهندسين الأميركيين لهذه الديموقراطية الشكلية "الانتخابية" سرعان ما كانوا ينقلبون عليها، هم ووكيلهم الإقليمي الإسرائيلي، عندما لا تعود تخدم مصالحهم.
وربما لا يعرف الجيل الجديد من الفلسطينيين، على سبيل المثال، ما انتهت إليه أول انتخابات محلية جرت في ظل الاحتلال عام 1976 عندما كان مصير القادة المنتخبين فيها إما الشهادة أو الإعاقة أو الاعتقال. لكن هذا الجيل ما زال يعيش مع تجربة المجالس البلدية التي تمخضت عنها الانتخابات المحلية الثانية التي جرت لأول مرة بعد حوالي ثلاثين سنة عام 2005، فتحت ضغوط الدول المانحة الراعية لهذه "اللعبة الانتخابية" والتي لا تريد وصول أموالها إلى مجالس بلدية غير مرغوب فيها سياسيا تم حل بعضها بذرائع مختلفة واعتقلت دولة الاحتلال الإسرائيلي وسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية الكثير من أعضائها المنتخبين "لأسباب أمنية".
لكن الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت أوائل عام 2006 يظل المثال الصارخ الأوضح على الانفصام بين أي انتخابات فلسطينية وبين الديموقراطية كنص ومؤسسات وروح وطريقة حياة، ففي الأحوال الديموقراطية العادية المعروفة لا يستخدم الحصار العسكري والاقتصادي والاستقواء بالأجنبي لمنع تبادل السلطة عبر صناديق الاقتراع، كما حدث بالضبط في تلك الانتخابات التي جرت على كل حال متأخرة عن استحقاقها ست سنوات في تجاهل لكل القيم الديموقراطية وبذرائع شتى، ومثلها الانتخابات الرئاسية، علما بان الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأولى بعد اتفاق أوسلو في سنة 1996 جرت على أساس الإقصاء السياسي للمعارضين لأوسلو واتفاقياتها أو على أساس مقاطعتهم لها بحيث كانت انتخابات للون السياسي الواحد كانت نتائجها محسومة ومعروفة سلفا في ظل غياب أي منافسة حقيقية فيها.
في عددها الصادر في نيسان / أبريل عام 2008 نشرت مجلة "فانيتي فير" الأميركية تقريرا كتبه ديفيد روز بناء على وثائق سرية حصلت المجلة عليها يبين أن كل المشاركين في "عملية السلام" لم يكونوا معنيين حقا بالديموقراطية بل بانتخابات شكلية تفرز شرعية ولو شكلية يتم إضفاءها على العملية والشركاء فيها. وكشف التقرير أن الشركاء الفلسطينيين والأميركيين والإسرائيليين والإقليميين في "عملية السلام" كانوا متورطين في تنظيم عملية انقلاب على نتائج انتخابات المجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي جرت عام 2006 بالقوة المسلحة. وبعد فشل الخطة الأصلية نتيجة لتوقيع "اتفاق مكة" الذي "أخذ إدارة بوش على حين غزة"، لجأ الأميركيون إلى "الخطة ب" البديلة كما وردت في وثيقة أميركية عنوانها "خطة عمل للرئاسة الفلسطينية" مما قاد إلى الانقسام فالاقتتال ثم الانفصال الجغرافي الراهن بين قطاع غزة وبين الضفة الغربية.
وقد وصف الكاتب الدور الأميركي الذي وضع الخطتين وفرض تنفيذهما بأنه فضيحة قال إنها في جزء منها تشبه فضيحة "إيران ـ كونترا" وفي جزء آخر فضيحة "خليج الخنازير" الكوبي. وكان هدف الخطة البديلة طبقا لمذكرة من وزارة الخارجية الأميركية هو تمكين الرئاسة الفلسطينية وأنصارها من حسم الصراع مع حركة حماس الفائزة في الانتخابات التشريعية بنهاية عام 2007 على أن يتمخض هذا الحسم عن "إنتاج" حكومة فلسطينية "عبر وسائل ديموقراطية تقبل بمبادئ (اللجنة) الرباعية" الدولية، ثم تدعو إلى انتخابات مبكرة أو "تفرض حكومة طوارئ"، والخيار الأخير هو ما آل إليه الحال الفلسطيني المستمر في الضفة الغربية منذ ذلك الحين. وذكر تقرير "فانيتي فير" أن مسودة أولى من "الخطة ب" تسربت إلى صحيفة "المجد" الأردنية في 30/4/2007 بينما كشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن شحنات أسلحة سرية إلى غزة عبر مصر بمعرفة أجهزة المخابرات ألإسرائيلية تنفيذا للخطة.
وكشف التقرير تفاصيل محاضر لقاءات بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وبين وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس في 4/10/2006 ثم بينه وبين جاك والاس القنصل الأميركي العام في القدس المحتلة بعد أسابيع قليلة. وقد أمهلت رايس عباس أسبوعين لحل حكومة إسماعيل هنية التي انبثقت عن الانتخابات لكنه أقنعها بتمديد المهلة أربعة اسابيع إلى ما بعد نهاية شهر رمضان المبارك. وفي نهاية المهلة قابل والاس عباس، ومما قاله القنصل للرئيس طبقا لمذكرة "نقاط حديث" أعدتها الخارجية الأميركية وحصلت المجلة عليها: "يجب إعطاء حماس خيار واضح، وموعد نهائي واضح ... فإما يلتزموا بحكومة جديدة تلتزم بمبادئ الرباعية، أو يرفضونها. ويجب أن تكون النتائج المترتبة على قرار حماس واضحة أيضا: فإذا لم توافق حماس ضمن الوقت المقرر، يجب عليك أن توضح نيتك بإعلان حالة طوارئ وتأليف حكومة طوارئ ملتزمة بذلك البرنامج"
وقبل ذلك أوضح التقرير أن بوش فرض الانتخابات على الفلسطينيين. ونسبت المجلة إلى مفوض الإعلام الحالي في اللجنة المركزية في حركة فتح محمد دحلان قوله: "الجميع كان ضد الانتخابات، الجميع باستثناء بوش. فبوش قرر: أنا بحاجة إلى انتخابات. أنا أريد انتخابات في السلطة الفلسطينية"، مضيفا أن الجميع في الإدارة الأميركية تبعوا بوش وبدأوا يزعجون عباس بإلحاحهم قائلين له إن "الرئيس يريد انتخابات، لكن "حسنا، لأي هدف؟" وقال دحلان إنه "حذر أصدقاءه في إدارة بوش بأن فتح لم تكن مستعدة لانتخابات في كانون الثاني / يناير" عام 2006.
ويبدو أن التاريخ الأميركي مع الرئاسة الفلسطينية والديموقراطية يكرر نفسه في عهد إدارة باراك أوباما. فالانتخابات تجري إذا أفرزت من يتساوقون مع الخطط الأميركية ـ الإسرائيلية، أو لتستمر حالة الطوارئ وتعيين الحكومات والمجالس البلدية، لأن حركة فتح ليست مستعدة بعد للفوز في الانتخابات، وهذا السبب هو الذي يكاد يجمع عليه المراقبون والمحللون ووسائل الإعلام لتأجيل الانتخابات المحلية الفلسطينية، مع أن السبب الذي تكرر الرئاسة وحكومتها وفتح ذكره هو ضغوط عربية وغير عربية من أجل تأجيلها لتسهيل عملية المصالحة الفلسطينية.
ويلفت النظر هنا أن هناك "شماعة عربية" أصبحت متوفرة باستمرار لتعليق كل ما يخالف إجماعا أو شبه إجماع فلسطيني عليها، فقد استخدمت هذه الشماعة للذهاب إلى المباحثات غير المباشرة حول استئناف المفاوضات المباشرة، والمفارقة الآن أنها لا تستخدم ضد حماس بل ضد قرار للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بإجراء انتخابات محلية وضد إجماع الفصائل المؤتلفة في إطار المنظمة على رفض تأجيلها. ومما له دلالته أن عباس لم يهاتف رئيس حكومته فياض لتأجيل هذه الانتخابات من دمشق او أنقرة مثلا حيث كان فيهما مؤخرا لإعطاء مصداقية للادعاء بأن التأجيل كان فعلا استجابة لهذه الضغوط، بل هاتفها من واشنطن مما يعزز الشكوك بأن التأجيل كان تساوقا مع أجندة أميركية لا عربية.
غير أن القرار الذي اتخذته حكومة تصريف الأعمال برئاسة د. سلام فياض في رام الله في الثامن من شباط / فبراير الماضي بإجراء انتخابات بلدية ومحلية في السابع عشر من تموز / يوليو المقبل ثم القرار الذي اتخذته الحكومة نفسها الأسبوع الماضي بتأجيلها إلى أجل غير مسمى هما أحدث نموذج لتخبط القرار السياسي الفلسطيني، فمن الناحيتين السياسية والدستورية أخطأ صاحب القرار في المرتين.
وبغض النظر عن الجدل حول شرعية الحكومة التي أصدرت قرار إجراء الانتخابات البلدية في الضفة بمعزل عن غزة، فإن إجراءها على مرحلتين الأولى في الضفة والثانية مؤجلة إلى إشعار آخر في غزة يجعلها انتخابات غير شرعية، لأن مرحلتها بهذا الشكل مخالف لنص المادة (5) من قانون انتخابات المجالس المحلية رقم (10) لسنة 2005 الذي استند إليه قرار حكومة فياض بإجرائها والتي تنص على أنه "يمكن فقط للجنة الانتخابات المركزية" أن تطلب تأجيلها جزئيا، ولم تطلب اللجنة ذلك، وعلى أن ينحصر التأجيل في "مدة لا تزيد على أربعة أسابيع" لا أن يكون مفتوحا إلى أجل غير مسمى، وعلى أن يتم التأجيل الجزئي إذا "اقتضت ذلك الضرورات الفنية وسلامة الانتخابات" لكن التأجيل تم لأسباب تعود إلى عدم جاهزية فتح للانتخابات.
وفي القرارين اكتسبت حركة فتح والمنظمة والسلطة اللتين تقودهما المزيد من المعارضين، فألبت في القرار الثاني حلفاءها عليها، لتقف اليوم وحيدة متهمة من المعارضين والحلفاء على حد سواء، مما ينذر بالمزيد من خسارتها في أي جولة "انتخابية" مقبلة، لتظل الانتخابات الفلسطينية مجرد عنوان خادع للديموقراطية لا تعبيرا حقيقيا عنها، ولتظل الديموقراطية الفلسطينية مؤجلة إلى إشعار آخر، بعد زوال الاحتلال.

* كاتب عربي من فلسطين

www.deyaralnagab.com