logo
حظر النقاب وقوننة التمييز !!

بقلم : أ.رابحة الزيرة  ... 17.05.2010

قيل للمتحمّسين لإصدار قانون يحظر النقاب في الأماكن العامة في أوروبا: "إن هذا القانون ينتهك الدستور"، فقالوا: "سنجد طريقة لقوننة حظر الحجاب .. فالقوانين قابلة للتطوّر"! في إشارة منهم إلى الالتفاف على الدستور والاعتداء على المؤسسات القائمة على حماية القانون بسنّ قوانين خاصة لفئات معينة من المواطنين، ما يجعلها اعتباطية وتؤدّي إلى خلخلة البنية الدستورية لدولة القانون التي أُسّست عليها الأنظمة الغربية، وهذا هو أخطر ما في الأمر، وأكبر خسارة للعلمانية سواء بمعناها الرائج أي "فصل الدين عن الدولة"، أو بمعناها الآخر المُروَّج –كما يُنظّر البعض- بأنّها تعني الدولة العلمية التي تسنّ قوانينها استناداً على الدراسات الموضوعية، والإحصاءات والمناهج العلمية.
رُبّ ضارة نافعة، إذا عرف المنتهكة حقوقهم كيف يناضلون من أجلها باستخدام آليات دولة القانون وأدواتها المتاحة، والاستعانة بالشخصيات المتنفّذة والمنصفة، وبناء التحالفات المثمرة مع منظمات حقوق الإنسان المعتبرة، لاسترجاع حقوقهم التي ضمنها لهم الدستور ومواثيق حقوق الإنسان، ففي فرنسا مثلاً فاز أربعةٌ وثلاثون صوتاً ضدّ (صوتين) فقط من اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان لرفض أي قانون يمنع النقاب بشكل عام ومطلق، لا دفاعاً عن النقاب، فجُلّ هؤلاء – إن لم يكونوا كلّهم – لا يؤيدون النقاب أصلاً، ولكن حفاظاً على حرمة القوانين وحمايتها من الانتهاك بأهواء شخصية أو نوايا انتهازية .. بل وقد عرض بعض نشطاء حقوق الإنسان على إحدى الفضائيات استعدادهم التام للدفاع (مجاناً) عن كل امرأة تُمنع من ممارسة حقوقها المكفولة دستورياً، لقطع الطريق على المتطرّفين ومنعهم من العبث بالقوانين لتمرير تعصّبهم وعنصريتهم.
ليس غائباً عنّا بأنّ النساء في الدول الإسلامية وبالأخص العربية منها يمارَس ضدّها ألواناً من الاضطهاد والقهر والتمييز، ونعلم أن أكثر من نصف مليون طالبة تركية حُرمن من الدراسة الجامعية بسبب ارتدائهن الحجاب، بينما استطعن أن يحصلن عليها من الجامعات الغربية! وندري أنّ العديد من المحجبات التونسيات تعرّضن إلى المضايقات في الشوارع وأماكن العمل، وتمّ تجريد العديد منهن من الحجاب عنوة في بعض مراكز الأمن بالعاصمة، وإجبارهن على التوقيع على تعهّد بعدم العودة لارتداء الحجاب! ولا ننسى فتوى شيخ الأزهر بجواز حرمان الطالبات المصريات من دخول قاعة الامتحان بالنقاب، ولا الطريقة غير اللائقة التي خاطبهن فيها، ولدينا سجلّ طويل لرصد الانتهاكات الحقوقية في شتى الميادين في الوطن العربي، من قبل ممارسات المؤسسة الدينية المتخلّفة بالتعاضد مع الأنظمة الاستبدادية، ولكن (قوننة) التمييز وسلب الحقوق على أساس الدين أو العرق أو اللباس أو نمط الحياة اليومية، وتطبيقه بأساليب قسرية أو التوائية في ما يسمّى بـ"الديمقراطيات العريقة" هو ما نخشاه لأنه إيذان لبداية العودة إلى عصور الظلام.
بمناسبة اللغط الدائر حول قضية النقاب، وقبلها الحجاب، لا ندري أندين فرنسا الساركوزية، وأوروبا التطّرف والفوضى، أو نترحم على فولتير التسامح، وفلاسفة التنوير وحكمتهم التي لازالت أصداء كلماتهم ترنّ في ضمائر المؤمنين بها، فولتير الذي دافع عن "جان كالاس" البروتستانتي الذي قُتل على يد التعصّب المذهبي الكاثوليكي الذي يدين به فولتير نفسه، ما يعني أن فولتير وقف مدافعاً عن شخص ينتمي إلى المذهب المضادّ له، وقد لخّص عقيدته تلك في كلمته الشهيرة التي أسست فلسفة الديمقراطية في الغرب "قد أختلف معك في الرأي ولكنني مستعد لأن أضحي بنفسي من أجل أن يتاح لك أن تعبّر عن رأيك وقناعتك".
فولتير القائل في "رسالة التسامح" التي كتبها قبل أكثر من ثلاثة قرون مبتهلاً إلى الله تعالى: "لا أتوجّه بدعائي هذا إلى الناس بل إليك أنت يا إله الكائنات أن أذنت لمخلوقات ضعيفة ضائعة أن تتجاسر وتسألك .. اجعلنا حيث الفروق الضئيلة بين الملابس التي تستر أجسامنا، وبين لغاتنا القاصرة، وعاداتنا المضحكة، وبين شرائعنا وقوانيننا، وبين كل آرائنا الحمقاء، وبين كل أحوالنا التي تبدو في عيوننا متباينة ولكنها أمامك متساوية، اجعلنا بحيث كل هذه الفروق الضئيلة التي تميز الذرّات التي تسمى بني الإنسان لا تكون علامات وشارات لإثارة الكراهية والاضطهاد ... واجعل أولئك الذين يغطّون أثوابهم بقماش أبيض ويقولون أنه يجب أن نحبك.. لا يكرهون أولئك الذين يقولون الشيء نفسه وهم يتدثرون برداء من الصوف الأسود .. إلخ".
فهل هؤلاء الذين يتغنّون بفولتير وفلسفته، وتسامحه، وبمبادئ الجمهورية الفرنسية من حرية وعدالة ومساواة واعون لمدى ابتعادهم عنها؟ وهل هم مستعدون لخوض عملية نقد ذاتي لكل الممارسات العنصرية التي ارتُكبت بحق مواطنيهم ابتداء من الحادي عشر من سبتمبر إلى الآن تحت عنوان محاربة الإرهاب والتطرّف؟ أم أن قضية حظر النقاب ستكون سبباً للكشف عن الوجه الحقيقي للتعصّب المخبوء تحت قناع مدّعي العلمانية.

جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين

www.deyaralnagab.com